الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 05:02

من أحمد قاذف الحجارة الى أحمد شاهر السكين/ بقلم: راضي د. شحادة

كل العرب
نُشر: 12/11/15 10:31,  حُتلن: 08:25

 راضي د. شحادة في مقاله:

شاهدت أحمد وهو يجلس في غرفة المحققين الأشاوس وقد انبحّوا بسبب نُباحهم الأهوج وهم يتوسّلون اليه بأن يعترف بأنّه خرج من القمقم ولم يخرج من رحم أمّه

عندما شاهدت أحمد المناصرة الذي خرج من قمقم الانتفاضات المتتالية باحثا عن مَخْرج لطفولته المقيّدة والمحاصرة والممنوعة أيقنتُ أنّ الذين اتَّهَموه بإرهابيته السّكّينيّة قد اجتهدوا وطوّروا عدّتهم وعتادهم وأعدّوا أدواتهم الاحتلالية من أجل مواجهته بلا هوادة

أربع صور تدغدغ تفكيري ولا تغيب عن ذهني منذ الانتفاضة الأولى سنة 1987 وحتى الانتفاضة الثالثة التي نعيشها الآن سنة 2015. هي أربع صور لطفل فلسطيني اسمه أحمد المناصرة. الصورة الأولى هي صورته وهو يحمل الحجارة ويواجه بها الطائرات والمدافع وسلاح الأشعة الليزيرية والفوسفورية الحارقة للبشر والشجر، ويبيد عن بكرة أبيهم الجنود الصهاينة الديمقراطيين المساكين المدجّجين بأحدث الأسلحة، ويُسقط الطائرات الذكية بدون طيار التي يستطيع الاحتلال توجيهها من غرفة كومبيوتراته العصرية.

الصورة الثانية هي صورة أحمد وهو ملقى على الأرض ينزف دماً ومحاطٌ بكل أنواع المستوطنين والجنود الذين يقذفونه بوابل من الشتائم ويدعون له بالموت وينتظرون الى حين ينزف دمه حتى النهاية ولا يسمحون لسيارات الإسعاف بإنقاذه او بمدّ يد العون له.

الصورة الثالثة، وهي صورة مُطَمْئِنَة ومريحة عندما شاهدتُ أحمد لا زال على قيد الحياة وهو في المستشفى وقد وقف الى جانبه محاميهِ وهو يساعده على تناول الطعام، وكأنّما أحمد أصبح عاجزا عن تناوله بمفرده. ولكنّي شعرت بالاشمئزاز عندما ادّعى الإسرائيليون في إعلامهم بأنّهم يقومون بإطعام من يقتلونهم بالسكاكين. عفوا، لم أشمئزّ بسبب ادّعائهم بأنهم يطعمونه، بل لأنّهم كانوا غاية في المزيد من الوحشية والكذب، فإنّ الذي كان يطعمه هو محاميه الفلسطيني، وأنّ أحمد كان قادرا على تناول الطعام لولا أنّهم كبّلوا يده اليمنى بحديد سريره خوفا منه لأنّه ربما يقوم بأعمال شيطانية ويبيد كل المرضى والأطباء والممرضات والزوار بقواه الخارقة اذا ما أطلقوا له عنان طفولته الشيطانية العفريتية الإرهابية الفلسطينية اللاسامية. نعم ظننت أنّهم يودّون إخافته وإحباطه وتعذيبه ولكنّني أيقنت أنّه يخيفهم حتى وهو مقيد ومصاب وجائع ومتألم ومتعب.

وأما الصورة الرابعة لأحمد فهي بعد أن كبّلوه بعد أن تعافى قليلا وسحبوه الى غرفة التحقيق حيث أحاطوه بمجموعة من المحققين الذين كانوا يصرخون في وجهه ويرهبونه لكي يعترف بأنه قام بكل هذه الانجازات الرهيبة بتحدّيه لدولة العساكر والسلاح العصري بقدراته الطفولية الخارقة البشعة والإرهابية، وبتشكيله خطرا مرعبا على الاحتلال وأسلحته العجيبة، وأنّه ربما يجعل الجنود والمستوطنين والمستعربين في كل انتفاضة من انتفاضاته يرتعدون خوفا ورعبا منه.

يبدو أنّ التاريخ يعيد نفسه، فقد كنت قد ترجمت عن العبرية بعد الانتفاضة الأولى مقالا خطيرا عن مجلة "نيكوداه" العنصرية الناطقة بلسان المستوطنين المزروعين في الضفة الغربية وقطاع غزّة تكشف مدى خطورة هذا الأحمد على إسرائيل وعلى العالم بأسره، وهذه مقتطفات متفرقة منها:

"في كل صباح كان أحمد ينهض ويغسل وجهه ويديه ويخرج من البيت لقذف الحجارة على السيارات التي تمر في الطريق... أحس احمد بيد غريبة تمسك به بقوة، وصرخ اليهودي في وجهه قائلا:
- سأريك ماذا يعني قذف الحجارة.

سحبه الى مخفر الشرطة... وفي مركز الشرطة قاموا بالتحقيق معه، وأحس احمد بإحباط نفسي عميق.. وبعد ذلك أطلقوا سراح أحمد.. ومنذ ذلك الحين فقد تخلّى أحمد عن ألعاب الطفولة غير السياسية وبدأ يقذف القنابل والمتفجرات غير السياسية ."

لأول وهلة بعد قراءتك لهذا المقال يراودك الشعور بأنّ أحمد مناضل يحظى بدعاية وتشجيع لنضاله من قبل المحققين والمستوطنين والجيش والاحتلال، وكأنما هم يعترفون بحقّه في الدفاع عن وطنه، ولِثَاني وهلة تشعر كم هو خطير وإرهابي هذا النوع من التفكير الاستيطاني الاحتلالي. يجعلونك تظنّ أنّه مناضل عنيد وشرس وخطير ويهدّد كيانهم فتصدّقهم للحظة، وفجأة تقول في قرارة نفسك: "ولكنه طفل وليس سوبرمان او جيفارا الثائر".

استغربتُ وأصابني الذهول عندما اكتشفت أنّ احمد الذي في ذهن مستوطني ومحتلّي الانتفاضة الأولى منذ سنة 1987 هو ذاته أحمد المناصرة الذي أصبح إرهابيا خطيرا، مع فارق بسيط وهو أنهم يتهمونه الآن بأنه يحمل سكينا بدلا من الحجر، وربّما يكون ذلك مؤشرا بأنّهم اذا لم يعطوه حقّه الشرعي فقد يستعمل أسلحة أخطر من هذين السلاحين الأبيضين. ما أذهلني أكثر وجعلني لا أستطيع استيعاب ما يجري أن مدّة طويلة مرت منذ الانتفاضة الأولى تربو على 28 سنة وأحمد المناصرة لم يكبر وهو لا زال طفلا. هل هذا ما يرعب المحتلين ويجعلهم يرتجفون أمامه وكأنما هو جِنّي خارج اليهم من جديد من قُمْقُمه الانتفاضي الذي لا يتوقف عن الشيطنة وفعل الأعاجيب؟ تمنى مستوطنو "مجلة نيكوداه" ان ينقرض أحمد منذ الانتفاضة الأولى وإذا به يظهر لهم من جديد متقمصا سكينه وحجره وطفولته وعفريتيته ويقفز أمامهم كَشُبّيكْ لُبّيكْ. هل يُعقل أن يشكِّل هذا الأحمد الأسطوري كل هذا الرعب في قلوب أقوى وآخر احتلال في العالم؟

شاهدت أحمد وهو يجلس في غرفة المحققين الأشاوس وقد انبحّوا بسبب نُباحهم الأهوج وهم يتوسّلون اليه بأن يعترف بأنّه خرج من القمقم ولم يخرج من رحم أمّه، مؤمنين كل الإيمان وواثقين كل الثقة بأنه لا يُعقل أن يكون أحمد موديل ال1987 هو ذاته أحمد موديل ال2015، لأنه لو كان كذلك لما بقي طفلا الى الآن. نبحوا مبحوحين قائلين: متى تنقرضون؟ متى تنتهون؟ متى توقفون انتفاضاتكم؟ متى تتوقف أمهاتهم عن الإنجاب؟ متى نستطيع الحصول على هذا القمقم لكي نحطّمه بمن فيه من عفاريت انتفاضاتكم المتتالية؟


عندما شاهدت أحمد المناصرة الذي خرج من قمقم الانتفاضات المتتالية باحثا عن مَخْرج لطفولته المقيّدة والمحاصرة والممنوعة، أيقنتُ أنّ الذين اتَّهَموه بإرهابيته السّكّينيّة قد اجتهدوا وطوّروا عدّتهم وعتادهم وأعدّوا أدواتهم الاحتلالية من أجل مواجهته بلا هوادة. في حينه كانت دولة الاحتلال تدّعي أنها تدافع عن أمنها من الحجارة وأنها تحاول ردع قطعان مستوطنيها من الاعتداء على الأطفال، وأن جيشها عندما كان يمرّ بمجموعة مستوطنين ويصطدم بمجموعة من الإرهابيين الفلسطينيين المنتفضين، فإنها كانت تواجههم بتكسير العظام والغاز المسيل للدموع، وأمّا اليوم فقد تطوّرت أدوات هذه الدولة. أُقتُلْ كل من تجده في طريقك من غير اليهود، واذا لم يمُتْ فوراً حاصِرْهُ الى أن يموت نزْفاً. أصبحت عقلية الدولة هي ذاتها عقلية الجيش والمستوطنين والأجهزة الأمنية ومحقّقي الغرف المغلقة التي تفرّغت كليا بحواسيبها وخبرائها لكي تعرف سرّ عودة أحمد الى ساحة الوغى. وأما أحمد المناصرة فإنّه بكل ما تبقّى له من ذاكرة، وبعد أن سدّدوا له ضربة في مؤخرة رأسه ونزف الكثير من الدماء، ولكنّه ولأنّه عجيب غريب وأسطوري ولأنّ دمه لا ينضب ولا يفقد طفولته مهما كبر ولأنه رافض لقيدهم وقابل بعزم لقيد الحياة، فقد قال لهم بدون كلل: "مش عارف، مش متذكّر"، بينما هم مقتنعون بكل ما أوتوا من ذكاء بأنه داهية ويتحايل عليهم بإجاباته، لأنّه يتذكر كل شيء ولا يمكن لأحد أن يرغمه على الاعتراف ببرامجه المستقبلية وبتخطيطاته الجهنّمية القادمة، فهو يحتمي بمقولته التي لا يملّ من تكرارها: "مش عارف مش متذكّر". لا بدّ أنّه يخطط ويستعد للانطلاق الى انتفاضته الرابعة حتى تحرير طفولته من قيد الاحتلال.

مسرحي وكاتب فلسطيني من الجليل

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net


مقالات متعلقة