الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 10:02

العبريّة والعربيّة إقصاء واحتكار التّاريخ والمكان/ بقلم: د. عامر دهامشة

كل العرب
نُشر: 28/10/15 18:10,  حُتلن: 18:26

د. عامر دهامشة في مقاله:

كيفيّة ترتيب اللّغات وظهورها الصّوريّ على اللّافتات، خاضع لوجهة نظر سياسيّة على الرّغم من أنّ أغلب مستعملي اللّافتات لا يعيرون ذلك اهتمامًا التّرتيب اللّغوي- الهرميّ يعكس بشكل عامّ أفضليّات سياسيّة ثقافيّة واجتماعيّة

تظهر الأسماء العبريّة-اليهوديّة على المفارق والوديان والأماكن الجغرافية الأخرى بينما يتمّ حذف الأسماء العربيّة-الفلسطينيّة من هذه اللّافتات واستبدالها بأسماء عبريّة مكتوبة بأحرف عربيّة

لافتات الأسماء الجغرافيّة الّتي تشاهدونها على الطّرقات لا تستخدم فقط للإرشاد وللدّلالة على المواقع والمدن كما هو الحال في دروس السّياقة النّظريّة (التّيئوريا)، بل إنّ هذه اللّافتات أداة بيد الدّولة ومؤسّساتها ترمي من خلالها إلى تحقيق أهداف ومآرب، ومنها: تذويت معانٍ أيديولوجيّة اجتماعيّة، خلق وصناعة تاريخ مغاير للمكان، وطمس تاريخ آخر، خاصّة في المجتمعات الّتي تعاني من تصدّعات إثنيّة واختلافات لغويّة.

قد تظنّون أنّ الأمر يقتصر على فحوى اللّافتة، أي الأسماء الجغرافية واللّغات المكتوبة عليها، لكنّ الأمر خلاف ذلك، فالمشهد اللّغويّ، أي كيفيّة ترتيب اللّغات وظهورها الصّوريّ على اللّافتات، خاضع لوجهة نظر سياسيّة، على الرّغم من أنّ أغلب مستعملي اللّافتات لا يعيرون ذلك اهتمامًا.

على غرار دول عديدة في العالم، تعيش في إسرائيل مجموعات قوميّة وإثنيّة. ونظرة ثاقبة إلى لغة اللّافتات تكشف أنّها تجسّد علاقة غير متكافئة في الحيّز الجغرافيّ بين الأغلبيّة اليهوديّة والأقليّة العربيّة. في أعقاب البحث الشّموليّ الّذي قمت به بالإشتراك مع د. ليئورا بيجون أضع بين أيديكم عشر ملاحظات تتعلّق بالأسماء الّتي تظهر على اللّافتات، من خلال التّطرّق إلى المجالَين: البصريّ والصّوريّ. والملاحظات هي:

المميّز الأوّل: كتابة لغويّة هرميّة
طريقة تسجيل اللّغات الرّسميّة (العبريّة والعربيّة)، في جميع اللّافتات الّتي شوهدت بلا استثناء هي طريقة هرميّة ثنائيّة، بحيث تظهر العبريّة دائمًا في أعلى اللّافتة، وتظهر العربية دائما تحتها. التّرتيب اللّغوي- الهرميّ يعكس بشكل عامّ أفضليّات سياسيّة ثقافيّة واجتماعيّة. في الخطاب الإسرائيليّ تعكس كتابة العبريّة فوق العربيّة نظرة استعلائيّة وفوقيّة، وهي تدلّ على المكانة المرموقة للّغة العبريّة ومتحدّثيها، مقابل المكانة المتدنّية للّغة العربيّة ومتحدّثيها العرب الأصلانيّين الّذين يشكّلون 20%من مواطني الدّولة.

المميّز الثاني: إقصاء المسمّيات العربيّة
تظهر الأسماء العبريّة-اليهوديّة على المفارق، والوديان، والأماكن الجغرافية الأخرى، بينما يتمّ حذف الأسماء العربيّة-الفلسطينيّة من هذه اللّافتات واستبدالها بأسماء عبريّة مكتوبة بأحرف عربيّة. عن طريق توظيف هذه السّياسة اللّغويّة الممنهجة يتمّ إقصاء الأسماء العربيّة وطمسها من المشهد الجغرافيّ واللّغويّ. على سبيل المثال الإسم العبريّ צומת אחיהוד تمّت كتابته "تسومت أحيهود"، بينما لا يظهر الاسم العربيّ لهذا المفرق وهو "البروة". ومثال آخر הר מירון قد أسدل ستاره على المسمّى العربيّ "جبل الجرمق".

المميّز الثّالث: انعدام لافتات أحاديّة اللّغة بالعربيّة
في جميع اللّافتات، وبلا استثناء، تنعدم اللّافتات أحاديّة اللّغة بالعربيّة، بينما نجدها أحاديّة اللّغة بالعبريّة. وأحيانا بالإنجليزية (أنظر صورة1، صورة2) هذه السّياسة اللّغويّة تبرز العبريّة في الفضاء الجغرافيّ وتختزل ظهور اللّغة العربيّة. هذه السّياسة أيضا تمنح استقلاليّة بصريّة ووجوديّة للعبريّة، وبالمقابل هي تحول دون استقلاليّة اللّغة العربيّة وتشترط ظهورها في اللّافتات بظهور العبرية.

المميزّ الرّابع: الأسماء العربيّة وضعت فقط في مداخل البلدات
اللّافتات الّتي تحمل أسماء البلدات العربيّة وُضعت فقط في أماكن قريبة جدًّا من مداخل هذه البلدات، وعلى النّقيض من ذلك فإنّ اللّافتات الّتي تحمل الأسماء اليهوديّة-العبريّة وضعت في الطّرق المؤدّية إلى هذه البلدات، وليس فقط في مداخلها، متجاهلة بلدات عربيّة موجودة بنفس البعد عن هذه الطرق، بل وأحيانًا أقرب إليها. وهذا ما يفسّر كيف تمنح اللّافتات اللّغة العبريّة مساحة كبيرة وفضاءً أبعد وأوسع انتشارًا، بينما تقلّص مساحة وفضاء اللّغة العربيّة.

المميّز الخامس: بلدات عربيّة لها اسمان: عبريّ وعربيّ
هل تعلمون أنّ هناك العديد من البلدات العربيّة تحمل اسمين: اسمًا عربيًّا وآخر عبريًّا؟ وهذا رغم أنّ جميع سكان البلدة هم من المواطنين العرب. على العكس من ذلك، لا يوجد أيّة لافتة لبلدة يهوديّة تحمل الاسم العبريّ والاسم العربيّ الّذي كان لهذه البلدة. مثلًا مدينة "النّاصرة" أكبر مدينة عربيّة في البلاد تمّت تسميتها باسم عبريّ وهو נצרת (نَتْسرَات) إضافة إلى الاسم اللّاتينيّ Nazareth (أنظروا صورة 4).

وهذه "يافة النّاصرة"، حظّها غير منقوص، إذ ألصقوا لها الإسم العبريّ-التّوراتيّ יפיע وتمّ نقحرته إلى أحرف عربيّة (يفيع. أنظروا صورة 3). إنّ إضافة البدائل العبريّة للأسماء العربيّة تفرز دلالتين لغويّتين لنفس المكان، بحيث يحمل كلّ اسم معنًى مختلفًا ويخدم متلقّين مختلفين: القارئ اليهوديّ يقرأ الاسم العبريّ ويجهل الاسم العربيّ، بينما القارئ العربيّ يتعرّف على الإسمين معًا، لأنّه يجيد العبريّة والعربيّة.

لا يتوقّف الأمر عند ذلك فقط، فاللّافتات ازدواجيّة الإسم تبعث على الشّعور بالتّناقض لدى المواطنين العرب، فيما يتعلّق بهويّة المكان الّذي يقطنونه. إنّ سياسة اختيار اسمين للقرى والمدن العربيّة تجزّئ هويّة هذه البلدات وتجعل لها تاريخين: عبريًّا وعربيًّا. في سياق آخر يتعلّق بالنّاحية الوظائفيّة للأسماء، نلاحظ أنّ ازدواجيّة الأسماء لبلدة ما مثلًا، قد تُحدث بلبلةً والتباسًا لدى متحدّثي العربيّة في حياتهم اليوميّة وفي مراسلاتهم مع مؤسّسات الدّولة، فهل يفترض استخدام الإسم العربيّ أم العبريّ؟ بطبيعة الحال سوف يفضّلون استخدام الإسم العبريّ، لأنّه المتداول في المؤسّسات الرّسميّة.

المميّز السّادس: أخطاء إملائيّة
تحتوي الكلمات العربيّة الّتي تظهر على اللّافتات على أخطاء إملائيّة. فمثلًا "سخنين" تُكتب في بعض اللّافتات "سخنس"، وهذه "بيت جن" تظهر مرّة "بيت جان" ومرّة أخرى "بيت جن". وإذا انتقلنا لقضيّة نسخ الحروف العربيّة ورسمها بنظام كتابة العبريّة (النّقحرة)، فهذه قرية "جولس" تُكتب بالعبريّة גולס مهملين حرف ג الذي يقابل حرف الجيم باللّغة العربيّة. كذلك الأمر بالنّسبة لقرية "ساجور" الّتي نُقحرت بالعبريّة مرّة סגור وأخرى סגור. وبسبب طريقة الكتابة المشوّهة هذه، فإنّ القارئ العبريّ يقرأ اسم البلدة بشكل مغلوط.

المميّز السّابع: نقحرة لاتينيّة للأسماء العبريّة دون العربيّة
النّقحرة اللّاتينيّة للأسماء العربيّة الّتي تدعى باسمين: عربيّ وعبريّ، تعكس الإسم العبريّ في أحيان كثيرة متجاهلةً الأصل العربيّ. فمثلًا "شفاعمرو" والّتي تدعى بالعبريّة שפרעם كتبت Shefar’am وهذه عكّا كتبت باللّاتينيّة Akko مجسّدةً الإسم العبريّ فقط.

وجدير بالإشارة أن نَعِيَ أنّ السّائح الأجنبيّ الّذي لا يجيد العربيّة في حالات كهذه، يتعرّف، من خلال نقحرة الإسم للّاتينيّة، على الماضي العبريّ لهذه البلاد وعلى الذّاكرة اليهوديّة للمكان، بينما لا تمكّنه هذه النّقحرة من التّعرّف على التّاريخ العربيّ للمكان.

المميّز الثّامن: اللّغة الفصيحة بدلًا من الاسم المحلّيّ
على بعض اللّافتات لوحظت كتابة الأسماء العربيّة باللّغة الفصيحة كما تظهر في المعاجم اللّغويّة، بحيث يتمّ تجاهل لفظ الاسم وكتابته كما يلفظه أهل البلدة، فمثلًا: "بئر المكسور" بدلًا من "بير المكسور" كذلك "تَمرة" بدلًا من "طَمرة".

المميز التّاسع: نقحرة الأسماء العربيّة كما ينطق بها متحدّثو العبريّة
على لافتات معيّنة تمّت نقحرة الأسماء العربيّة إلى العبريّة بحيث لا تتوافق مع لفظ الاسم باللّغة العربيّة، وإنّما تلائم لفظ الإسم باللّغة العبريّة. فمثلًا اسم "البْعينْة-النْجيدات" يظهر على اللّافتة بالأحرف العبريّة בועינה-נוגידאת، وهذه قرية "المقيبلة" تكتب מוקיבלה بدلًا من "الْمقيبلة". بسبب هذه النّقحرة، ولأسباب اجتماعيّة-لغويّة، يستخدم المواطنون العرب في مراسلتهم اللّفظ العبريّ للمسمّيات العربيّة مهملين بذلك لفظ هذه المسمّيات كما ورثوها من الآباء والأجداد.

المميّز العاشر: نقحرة عربيّة مغلوطة للأسماء العبريّة
في لافتات أخرى نجد أنّ نقحرة الأسماء العبريّة إلى أحرف عربيّة لا تلائم لفظة هذه الأسماء وكتابتها باللّغة العبريّة، فمثلًا: المركّب الأوّل في اسم נצרת עילית يكتب أحيانًا "نصرات" وأحيانًا أخرى نتسرات".

ماذا نستنتج ممّا تقدّم أعلاه؟
تعمل السّياسة اللّغويّة الرّسميّة الإسرائيليّة على توظيف اللّافتات بهدف إقصاء المسمّيات الجغرافيّة العربيّة الّتي يتداولها المجتمع العربيّ-الفلسطينيّ، وذلك عن طريق استبدالها بأسماء عبريّة، حيث يتمّ عرضها بشكل مشوّه قاصدةً طمس الاسم العربيّ في الفضاء الجغرافيّ. في هذه اللّافتات يبرز نهج "المواطنة" وإظهار المسمّيات الجغرافيّة الّتي يستعملها المجتمع اليهوديّ، بحيث تعرض المسمّيات الإسرائيليّة وكأنّها تمثّل جميع شرائح المجتمع يهودًا وعربًا. ولذلك فالمسمّيات العبريّة-الإسرائيليّة تحظى بتمثيل كلّيّ وشامل، وتحتلّ مكانة مرموقة ومساحة شاسعة في الفضاء الجغرافيّ، وهي تكتب في أعلى اللّافتة وتخلو من الأخطاء اللّغويّة.

ختامًا، عند الحديث عن اللّافتات، فإنّ المشهد اللّغويّ يمكن أن يكون في آن واحد جسرًا، من خلاله يتمّ بناء مساحة عامّة مشتركة تحترم كلا الشّعبين: العربيّ واليهوديّ. من جهة أخرى يمكن للمشهد اللّغويّ أن يكون عامل احتكار وإقصاء وحيّزًا لتأجيج الصّراعات بين المجتمعين، وذلك من خلال تبنّي سياسات إقصائيّة بحقّ شرائح مجتمعيّة من جهة، واختلاق تاريخ أحاديّ اللّغة للمكان من جهة أخرى.

بإمكان السّياسة اللّغويّة المتّبعة في إسرائيل أن تمنح الأسماء العربيّة-الفلسطينيّة تمثيلًا لغويًّا وبصريًّا أوسع وأشمل معادلًا للتّمثيل العبريّ، وبذلك تثبت للقاصي والدّاني أنّ التّعايش بين اللّغتين الرّسميّتين أمر ممكن على هذه الأرض.
فهل من ملتفتٍ إلى اللّافتات؟؟
 


(صورة 1: لافتة أحاديّة اللّغة بالعبريّة، صورة 2: لافتة أحاديّة اللّغة بالإنجليزيّة)


(صورة 2: إسم عبريّ واسم عربيّ لمدينة النّاصرة، صورة 4: إسم عبريّ واسم عربيّ ليافة النّاصرة)

مقالات متعلقة