الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 03:01

بئس الزمان زمانكم/ بقلم: البروفيسور أحمد الناطور

كل العرب
نُشر: 08/05/15 11:14,  حُتلن: 12:19

البروفيسور أحمد الناطور في مقاله:

إن دَخَلْتَ قرية عربية فانك تذهل حين ترى أن اليافطات المعلقة على أبواب المحلات مكتوبة كلها باللغة العبرية بالبنط العريض

تعدت المسألة نطاق عرب 48 لتمتد إلى باقي الأمة وأصرت هذه الأمة على أن تتقمص الهزيمة وتخزنها في وعيها

قال "القَبْلان" الشيخ لعامله الفتى: " إِبْعِد "المَساعيت والباغِر" لأنه في "العولام" في عرس، بعدين "سَمنْ العَموديم" اللي طالعة من " القَواديح". واعمل "قاف" بالخيط على شان توخذ "چوبَع الرِتْسْبا" وتحط "القوتْسيم". ( " المسَاعيت" - تحريف لكلمة "مَسَئيت" -أي شاحنة. "العولام" - يعني "أولام" – قاعة الأفراح. "سَمِن" – ( تعريب لكلمة سِمان، ضع علامة). "قواديح" جمع تكسير لكلمة "قيدواح"- أي غزر. "قاف" – أي خط. "چوبَع" – تحريف لكلمة "چُوبَه" – أي إرتفاع. "رِتْسْبا"- أي أرضية. "كوتْسيم" – أشواك، يُقصد بها قضبان الحديد).

قال العامل الفتى "لِلْقَبْلان" الشيخ : " بسيدر" لما بتيجي " المَشْئِفا" بتفوت من " الكْنيسا راشيت " مش ديرِخ "العولام". بعدين "المساعيت مبتخة " إذا ضربوها إحنا رابحنين، لأنه "الكَناف سْمالي" هيك هيك بدو "هَحْلفاه....". (المشئفا- مضخة، مبتخة) - تعريب كلمة بطواح- أي تامين.

قلت: نِعْم العربُ هؤلاء، وتذكرت سكرتيرتي التي كلما سألتها شيئاً قالت: "بو نَچيد " أي "خلينا نقول" !

ولكن سرعان ما استدركتُ ذاتي في عتابِ ذاتي، فقلت: لماذا ألوم "القَبْلان" الشيخ وعامله الفتى، أنسيت ما هو أعظم؟! يقول المحامي القدير لموكله: احنا قدمنا تفيعاه بسيدر دين مكوتسار وهم اكيد راح يطلبو رشوت لهتجونين (القضاء في الأمور المستعجلة، واذن للرد ) فيرد عليه الموكل سائلا : بس انا عندي مسماخيم، وقبلوت وحشبونيوت (وثائق وايصالات وفواتير ) فيجيب المحامي مفسرا : لسا ما وصلنا لشلاف الهوخاحوت والرئيوت .( لم نصل الى مرحلة البينات بعد). والمحامي اذ ينتمي الى الشريحة المثقفة الواعية فانه ليس وحيدا في هذه"النعمة "
وحاله كحال الفنيين والأطباء وسائر أصحاب المهن.

إنها لظاهرة تعيسة، تمر على أهل هذه البلاد الأصليين من أهل الضاد وكأنها لعنة من السماء . " ينعم " في ظلها الصغير والكبير، كما الذكر والأنثى، المثقف وعديم الثقافة على حد سواء. وكأنها قدر لا مفر منه إلا إليه.

أما إن دَخَلْتَ قرية عربية فانك تذهل حين ترى أن اليافطات المعلقة على أبواب المحلات مكتوبة كلها باللغة العبرية بالبنط العريض، أما إن كان من بين أصحابها من يحترم نفسه قليلا، أو يعتبر زبائنه - وكلهم من العرب - فانه يكتب بخط خجول بالعربية ايضاً – ولكن تحت العبرية بطبيعة الحال.

وهاك من هذا بعض "الدرر " على سبيل التمثيل فحسب: " مَكوليت أبو العبد "، " ممْتاقي الأمانة" – (ويقصدون الكنافة والبقلاوة)، "غاز لريخب"، " موعتساه ميكوميت دير الأبد، " بيت سيفر لنهيجا"، "رهيطيم عبد"، " سبورت محمود"، " بيت مِرْقاحَت سامي"، " موساخ اخيم سلامة"، "مخمد مديدوت" ( أي ان حضرته مساح)، مقهى " كافيه هَأَرْمون " الذي لا يدخله يهوديٌ إلا إن كان جابياً للضرائب او جالبا للمصائب.

وانت ان لم تكن ابناً باراً لهذه القرية أو تلك، فانك تعتقد جازما أن للظاهرة دلالة واحدة، هي أن زبائن هذه المحلات كلهم يهود، ولا شأن لأصحابها بالزبائن العرب...... لذا فالزبائن العرب لا يستحقون الاحترام....... والأعجب من هذا كله، أن دكانا صغيرا نَكِرَه يقبع في سقيفة مهتراة من زقاق ضائع في بلدة عربية قديمة تراه يعلق على بابه يافطة بالعبرية. ولك أن تتساءل هل معنى ذلك أن اليهود يأتون من تل- أبيب ليشتروا حليبا وجبنا من هذا الدكان المغمور في دهاليز القرية القديمة، التي إليه الشمس لا تاتي؟
...، وللامر وجه اخر :
كُنتُ يومَها أرافق مريضا عزيزا إلى المستشفى وطيلة انتظاري في القسم الداخلي كانوا ينادون بمكبر الصوت: "موخي" ... "موخي" ... قيل انه مدير جناح التمريض في القسم، وكم كانت المفاجأة حين جاء "موخي" وإذا هو جارنا الممرض " محمد".

كان لي خُضَري اعتدت عليه، وحين آتي إليه مرتين في الأسبوع، أقول له: اختر لي من الفواكه صندوقا من التفاح، وآخر من الأجاص وآخر.... ومن الخُضر كذا وكذا ..... ولا اذكر أن سألته مرةً عن سعر واحد منها أبداً. بل يجمع هو الحساب ويقول: " مئتان، ثلاثمائة، أربعمائة، وهكذا.... وفي يوم من الأيام، وبينما كان يجمع لي أصناف الفواكه والخُضَر، جاء يهودي من أصل يمني يبدو انه مربٍ للأبقار فقاطع انهماكَ الرجل وسأله: " بكم الموز؟ والتفاح؟ والأجاص؟ و .... فوقف البائع يجيبه برويةٍ وتفصيلٍ، وبعد ان جال الدكان وما حوى مرة او مرتين قال له اليهودي: اريد نصف كيلو من الموز!" أما البائع الذي نسيني تماما فقد جهد وهو ينتقي له بضع أصابع من الموز ثم وَزنها.... ثم أعطاه هديةً باقات من البقدونس والنعناع وأرفقها بابتسامة عريضةٍ لم تنقطع.... كل هذا وأنا انتظر.

قلت للرجل: اعد إليك بضاعتك ولن اعود اليك بعد اليوم .
انه لغني عن الإشارة إلى أن اللغة هي الأنبوب الذي يمر خلاله تراث الشعوب من جيل إلى جيل، وبها تتشكل أواصر الانتماء إلى الشعب والأمة. وما اعتماد اللغات الرسمية في الدول الحديثة إلا توخيا لترسيخ المشترك بين أبناء الأمة نحو قولبة فئاته المختلفة في بوتقة واحدة تجمعها عناصر الوحدة.

لقد أهداني الصديق الدكتور عبد الرحمن مرعي كتابه، " العربية والعبرية في الماضي والحاضر"، فوجدته يصف حالنا الذي نحن فيه، من تيهٍ وضياع، ويبين استخدام الحركة الصهيونية للغة العبرية كرافعة لبناء الأمة وخلق شعب من لا شيء اسمه – الشعب الإسرائيلي. مشكل من خلط عجيب لفئات جُمعت من كل آفاق الأرض، هذا ويعتمد المؤلف الباحثة ايلانه شوهامي التي تقول : " من الناحية الإيديولوجية تلعب اللغة العبرية دورا مركزياً في دولة إسرائيل نتيجة صلتها بالصهيونية، وهي الحركة التي عملت على عودة اليهود إلى وطنهم، ودأبت على بناء امة جديدة مستقلة........ أحياء اللغة العبرية- تحويلها من لغة مكتوبة تستخدم في الصلاة إلى لغة محلية تستعمل في جميع المجالات الحياتية – لعب دورا مركزيا في بناء الأمة الجديدة."

وفي مكان آخر، يعتمد المؤلف الباحثة وفاء فايد حيث تقول : " اللغة هي مناط الهوية، وقوام الذاتية، ومن هنا فان الوهن أول ما يعتري امة يصيبها في لغتها........ .

ويتضمن انتشار لغة ما سر بقاء أصحابها، وها نحن إزاء عالم يتصارع على البقاء ....." وفي الحالة الإسرائيلية يقول سليمان (2004) أن اللغة أصبحت في إسرائيل سلاحا في الصراع ووعاءا تترسخُ فيه الهوية وتدافع عن نفسها". أما في سياق الصراع بين الشعوب فيقول أنيس (1965) انه عندما ينتصر الغزاة على شعب يَقل نفوذ السكان الأصليين ويزداد خضوعهم للغزاة، وهنا تتميز طبقة غالبة مسيطرة، وطبقة مغلوبة مقهورة وتقنع تلك الطبقة المغلوبة بمكانتها الدنيا، بل تطمح أحيانا إلى تقليد الغالبين والتقرب منهم. وفي هذه الحالة، يفرض هؤلاء الغزاة ثقافتهم ولغتهم على هؤلاء المغلوبين، ولن يمضي وقت طويل حتى تكون ثقافتهم ولغتهم هي اللغة الشائعة، ولا تترك اللغة المغلوبة إلا أثاراً ضئيلة في اللغة الغالبة.

والأمثلة على هذا القول كثيرة، كتحدث التونسيين والمغاربة واللبنانيين بالفرنسية وهكذا.

لقد قُدر لي أن ازور الأردن سنة 1995 قبل أن فتح الطريق أمام الناس وقبل المعاهدات، بدعوة ملكية للمشاركة في احتفال اعمار قبة الصخرة المشرفة. يومها كان معنا احد رؤساء البلديات العربية، فتقدم هذا إلى موظف الاستقبال في الفندق وقال له :

" أين البدلة التي أعطيتكم للنيكوي يابيش ؟" قال الموظف: ماذا تقول ؟ قال: " إمبارح أجا على البدلة چليدا فحطيتها عندكم للنيكوي يابيش" . أما الشاب الأردني فبقي مدهوشا لسماع هذا النوع من العربية. حزنت لحال الرئيس وحال مرؤوسيه على حد سواء، وأشفقت على الموظف الأردني الذي وضعه هذا الرجل في هذا الحال المستحيل.

بعد سنوات دخلت محلاً للهواتف النقالة في مدينة اربد ولدى سؤالي عن جهاز نقال قال لي البائع الشاب: في هذا البلفون شاعون معورير، ومحشيب، وهودعوت وكارطيس زيكرون.... "

أما أنا فصعقت حتى العظم، وقلت: لقد تعدت المسألة نطاق عرب 48 لتمتد إلى باقي الأمة، أسفاه !!!! لقد أصرت هذه الأمة على أن تتقمص الهزيمة وتخزنها في وعيها ولا وعيها على حد سواء، وأَبَت إلا أن تتصرف كأمة مهزومة مغلوبة، فها هي الجزيرة لا تتورع حين تقول – حاجز ايرز وهار حوما، وفضائية أخرى تقول عيد البيسح والحانوكا ونتسرات عيليت والكنيست وجبال الچلبواع.

لقد حدثني احدهم أن رجلا مسلما يُعد من طليعة القيادات الفلسطينية المعروفة في الأرض المحتلة، قد وقف خطيبا أمامَ مؤتمر عربي في الرباط فقال في معرض حديثه عن معاناة أهل القدس:

" إن الصهاينة ينصبون المحاسيم على مداخل القدس ويمنعون المصلين من الدخول، أما اليهود فيدخلون إلى الكوتل كما يشاءون ". يومها ضحكت أول الأمر ثم انقلب ضحكي بكاءً مراً على ما تمر به هذه الأمة ذات التاريخ المجيد والحضارة التي غطت كرة الأرض مرةً. لقد طار بي الشوق إلى زمانٍ كانت به الدنيا تتكلم العربية واشتقت إلى شارع "القلاه هورا" – القلعة الحرة في مدريد، ونهر "فادي كبير " – الوادي الكبير الذي يخترق عاصمة العز والمجد – قرْطُبَة، وقلت في نفسي إما أن لا نكون من أحفاد ذاك المجد الذي نُقِش يوماً على واجهة التاريخ أو أن ذاك المجد لم يكن إلا حلماً وأنشدت مع الاعتذار من لسان الدين بن الخطيب:

جــادك الشـــوق إلى المجــد كمـــا كـــان عـــهد العـــز فــي الأندلـــس

لـــم يــكن مجـــدك الا حلــما فـــي الكـــرى او خلـــسة المختلـــس

ترى كيف سيقرأ أحفادنا تاريخ زماننا هذا وهل سيصدقون أن مشروع إحياء اللغة العبرية- التي كانت قد شبعت موتاً، قد فاقت آمال أهلها بها، حتى صار أبناء العرب من المحيط إلى الخليج يتحدثون اللغة العبرية بفخر واعتزاز ويستبدلون كلام العرب بهزيل الكلام.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة