الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 21:01

وجهة نظر/ بقلم: المؤرّخ والمهندس فؤاد فرح

كل العرب
نُشر: 07/05/15 10:54,  حُتلن: 12:19

فؤاد فرح في مقاله:

مسيحيو هذه البلاد يعانون من الفراغ الروحي نتيجة انعدام وسائل التثقيف الديني والتراثي المسيحي

قد يكون العلمانيون غير مؤهلين للإرشاد الروحي ولكنهم بأعمالهم وتصرفاتهم يمكنهم أن يكونوا شهودًا حقيقيين للمسيح

مسيحيّة المشرق ليست مجرد عقيدة فقط انما هي أيضًا إلى جانب ذلك تراث فكري وحضارة عريقة استحوذت عليها قيم الولاء والانتماء للمشرق شعبه وأرضه ومقدساته

لا يختلف اثنان في أنّ مسيحيي هذه البلاد يعانون من الفراغ الروحي نتيجة انعدام وسائل التثقيف الديني والتراثي المسيحي ليس فقط في برامج التعليم للمدارس الرسميّة إنّما أيضًا في معظم المدارس الاهلية التي تديرها الكنائس والارساليات، مما سبب شعورًا باللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه الكنيسة وخلق اجيال يقتصر انتماؤها المسيحي على مجرد صفة مكتسبة بالولادة.

ليس المفروض أن يتعلم أبناؤنا فلسفة ولاهوتيّة العقيدة المسيحيّة وعمقها الروحاني، إنّما التعرف على مبادئ التعاليم والقيم المسيحيّة وعلى نهج الحياة التي ارادنا المسيح أن نحياها من خلال التركيز على المحبة – محبة الله ومحبة البشر دون استثناء. المسيحيّة اذن ليست ايمانًا نظريًا أو مجموعة شرائع وقوانين انما هي في الواقع حياة تتمحور حول الانسان وتدعو للعدالة الاجتماعيّة، وهي في الواقع شراكة ولقاء مع الله القائم بيننا وفي قلوبنا وليس في السحب وبين النجوم. قد يكون العلمانيون غير مؤهلين للإرشاد الروحي ولكنهم بأعمالهم وتصرفاتهم يمكنهم أن يكونوا شهودًا حقيقيين للمسيح. يقول الانجيل "من اعمالهم تعرفونهم".

حقنا الاعتزاز بجذورنا المسيحيّة الاصيلة اعتزازنا بعروبتنا ووفائنا لها. فمسيحيّة المشرق ليست مجرد عقيدة فقط انما هي أيضًا إلى جانب ذلك تراث فكري وحضارة عريقة استحوذت عليها قيم الولاء والانتماء للمشرق، شعبه وأرضه ومقدساته، وتمثلت بمساهمة المسيحيين في إثراء الحضارة العربية عندما كانوا روّاد العلم والمعرفة في عصر زهوها وبناة للفكر القومي والبعث اللغوي في مرحلة لاحقة. يحتم علينا ذلك ابراز الدورالمسيحي وكنه الشراكة التاريخية والحضارية مع شعوب هذه المنطقة ليس فقط على النطاق المحلي انما أيضًا لدى شعوب الغرب ممن يعتبرون العالم العربي عالمًا اسلاميًا محضًا. كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر على الكنيسة الشرقيّة دورها في بلورة الفكر المسيحي وفي ارساء قواعد الايمان والليتورجيا والايقونة واللحن الكنسي ونظام الرهبنة التي استقت منها كنائس الغرب مقوّماتها الايمانية باعتراف اللاهوتي توماس اكويناس.

إنّ هذا يقودنا إلى تجنب مخاطر الاحباط والعجز وعدم الثقة بالنفس ما قد يفضي بنا الى الاستقلالية والعزلة والتقوقع داخل مجتمعاتنا الطائفية كي لا نمر بتجربة يهود اوروبا في جيتواتهم التي ادت بهم الى الهلاك. علينا التخلص من عقدة الاقلية بمفهومها الاجتماعي والسياسي- أي من يختلفون عن الاكثرية باللغة والثقافة والتاريخ، مع التأكيد على أنّ بقاءنا مرهون بعلاقاتنا الطيبة مع شركائنا أبناء الشعب الواحد، ما يعني تعزيز الوحدة الوطنيّة وتحصين النسيج الاجتماعي من خلال اعتماد التعددية العلمانية ومبدأ قبول الاخر علما أنّ مهمة ذلك، سواء بالمبادرة أو السعي هي في الدرجة الاولى مسؤولية الاكثرية. إنّ مستقبلنا امام ارتفاع وتيرة التطرف الديني والعرقي لا يكمن في أن نضع أماني وتطلعات اخوتنا بالدين في حقيبة سفر كما فعل الكثيرون من شبابنا الطموح المثقف شعورًا منهم احيانا بالغربة في وطنهم، بل في أن نجابه معًا في جبهة شعبية شاملة مظاهر الاقصاء من قبل الفئات المتطرفة. صحيح أنّ عددنا قليل لا يتجاوز %1.7 من مجموع السكان، لكن علينا ألا ننسى اننا أوّل من استوطن هذه البلاد وأنّ استمرارية الوجود المسيحي فيها لم تنقطع رغم الصراعات والحروب التي ابتليت بها المنطقة. يقول المسيح "لا تخف ايها القطيع الصغير".

من جهة أخرى، لا بد من الاشارة إلى مواطن الضعف التي تعاني منها بعض كنائسنا حيث التجمد الفكري والتصرف السلطوي وانعدام الشفافية مما خلق أزمة ثقة وشعورًا بالانقطاع وعدم المبالاة لدى ابناء رعاياها. لم يؤسس المسيح الكنيسة كي تبقى في خدمة نفسها او تتمحور حول كهونتها بل ارادها جماعة مؤمنين يندرج الايمان من اعماق نفوسهم ويتشاركون في رسالتها والشهادة لها وفي تسيير امورها. على هذا الاساس لا يمكن للرئاسة الروحية بأيّ حال من الاحوال أن تعيش بمعزل عن رعيتها بل عليها اعتماد علاقة محبة دائريّة لا هرميّة معهم وليس سلطة فوقيّة كما هو الحال الآن. أمام هذا الوضع تقف بعض الكنائس شبه عاجزة على مواجهة التحديات المصيريّة التي يتعرض لها الوجود المسيحي نتيجة عدم التواصل مع رعيتها واعتبار شؤون الكنيسة بكاملها من اختصاص المكرسين دون سواهم. من الطبيعي اذن أن تتحول الكنيسة في هذه الحالة الى مؤسسة بيروقراطية منغلقة على نفسها، تدار بقوانين جامدة تعيق ترابطها مع ابنائها بدل من أن تكون في خدمتهم.

يخطئ من يظن أنّ التربية الدينية هي من اختصاص الكنيسة والمدرسة، اذ لا شك انها في الواقع مسؤولية البيت والاسرة أيضًا، حيث هناك في كنف الدفء العائلي فرصة ذهبية لتهيئة الجيل الناشئ اخلاقيًا بما يتلاءم مع القيم المسيحيّة وتعاليمها. نقرأ في المزامير "ان لم يبنِ الرب البيت فباطلا يتعب البناؤون". قد ينظر الكثيرون الى الانجازات العلمية والتكنولوجية الحديثة بعيدة المدى قمة في الاداء البشري على مدى التاريخ الا أنّ ما رافق ذلك من مظاهر تفكك الرباط العائلي والتمرد على انماط الحياة التقليدية في العلاقة بين الوالدين وابنائهم، ورفض الثوابت القائمة خاصة لدى الشباب، أدّى في كثير من الحالات الى الانفلات الخلقي وعدم ضبط الامور بكافة صورها داخل العائلة وخارجها، ما يستدعي، ازاء تراخي التربية في المدارس، الاعتماد بشكل رئيسي على التربية البيتية التي على الوالدين توليها.

فالأبناء بالغريزة بحاجة لمشاعر الحنان والى استدرار عطف الوالدين الذين بدورهم رغبة منهم في البذل وتوفير ما امكنهم لأبنائهم، قد يميلون إلى منحهم المزيد من الحريات استجابة لطلباتهم دون التقيد بحدود لا يجوز تجاوزها. قد يكون لدى الوالدين صعوبة في تخصيص الوقت الكافي او ربما النية في مراقبة تصرفات ابنائهم وتفهم نفسيتهم والاستماع الى مشاكلهم، إمّا بسبب انشغالهم بالعمل او بسبب الطلاق أو اهتمامهم المفرط بحياتهم الخاصة، الا ان واجبهم التربوي يحتم عليهم التغلب على هذه العقبات وتهيئة الجو المناسب داخل العائلة للاهتمام بقضايا الأبناء بما في ذلك تقديم النصح والارشاد لهم وبث روح المسيحيّة وتعاليمها وقيمها في نفوسهم "كي يتقدموا في الحكمة والبنية وفي الحظوة عند الله والناس" كما يقول الانجيل.

ليس سرا أنّ الامور تسير في تصاعد مستمر نحو اضعاف الوجود المسيحي في بلدنا وتراجعه بشكل مقلق ما قد ينتهي به المطاف الى الانحلال كما حدث في تركيا ومعظم دول شمال افريقيا، حسب توقعات الكثيرين من المطلعين على اوضاع المسيحيين هنا. أمام ذلك لا بد من ترسيخ التعاون بين القيادات الروحية والعلمانية لدى المسيحيين، ما يستدعي أيضًا إقامة هيئة مشتركة تأخذ على عاتقها القيام بالدراسات اللازمة في هذا الشأن ووضع برنامج عمل على ضوء رؤيا واقعية مستقبلية لما يمكن توقعه بهدف مواجهة مخاطر تفريغ الاراضي المقدسة من مسيحييها. علينا ان نشير الى اهمية الحضور المسيحي البشري في الديار المقدسة التي شهدت بزوغ المسيحيّة وانبثاقها وبلورة الفكر المسيحي وعمقه الروحاني كي لا يتحول تراثنا ومقدساتنا الى مجرد مزارات يتعهدها رهبان اجانب او ديزني لاند سياحية حسب قول رئيس اساقفة كنتربري.

السؤال الذي لا بد من اثارته هل بإمكان الطوائف المسيحيّة المحلية وهي ما عليه من الضعف عدديًا واقتصاديًا وروحانيًا مواجهة هذا التحدي وحدها، أم أنّ على العالم المسيحي أيضًا أن يقوم بقسطه في مد يد العون لها في العمل من اجل ترسيخ الحضور المسيحي في بلادنا وضمان استمراريته من خلال التأكيد على دور ومسؤولية الغالبية المسلمه أيضًا في ذلك؟

اختم رسالتي في التضرع إلى الله أن ينير طريقنا ويسدد خطانا للإبقاء على جذوة الايمان المسيحي في قلوبنا واعلاء شأن رسالته واظهار مجده ومحبته للبشر.

المؤرّخ والمهندس فؤاد فرح من الناصرة أشغل سابقا منصب رئيس مجلس الطائفة الارثوذكسية في الناصرة ورئيس المؤتمر الارثوذكسي الاأسبق وعضو في عدد من الهيئات والجمعيات الاخرى

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.76
USD
4.01
EUR
4.65
GBP
240897.45
BTC
0.52
CNY