الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 10:02

يوم رقص أهالي قرية صندلة بأشلاء فلذات أكبادهم /بقلم: رشاد عمري

كل العرب
نُشر: 16/09/13 12:53,  حُتلن: 08:58

رشاد عمري:

تعوّد الأهالي لمّ غلالهم فهو أيلول الحصاد الذي ينتظرونه ليبنوا مستقبلا لأطفالهم، لم يعرفوا أن الحصاد سيكون لأرواح أطفالهم وأن الغلّة ستكون حمراء بالدم في أكفان فلذاتهم.

كالعادة عاد الأطفال من المدرسة الى بيوتهم في طريق ترابي، مرّوا منها مرّات ومرّات، حتى تحوّل الطريق، في أيلول، إلى جحيم واختلط تراب فلسطين مع دماء أطفال صندلة ليزيد التراب من قدسيته قدسيّة


نعم هول الكارثة، بقي في صدور اهالي الاطفال الضحايا، فكان احياء الذكرى في حياة اهالي الاطفال، ليس احياء للجرح، فهو ليس جرحا، بل قتلا للنفس، نفس الاب الذي رقص باشلاء ابنته، وقتل للام التي عفرت تراب الموت فوق عينيها.

الى ذكرى الشهداء : آمنة عبد الحليم عمري، طالب عبد الحليم عمري ، غالب عبد الحليم عمري، محمد عبداللـه عمري ، اعتدال عبد القادر عمري، رهيجة عبد اللطيف عمري ، سهام زكريا عمري، صفية محمود عمري، عبد الرؤوف عمري، فاطمة أحمد يوسف عمري، فهمية مصطفى عمري، محيي الدين أسعد عمري، يوسف أحمد محمد عمري ، يحيى أحمد حسن عمري .  كانت الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الثلاثاء الموافق 17 أيلول من عام 1957 دقّ جرس مدرسة صندلة- مقيبلة المشتركة معلنا انتهاء الدوام الدراسي والأخير. كانت الساعة الثانية تبعتها ثانية، كسرت ظهر أهل قرية لم يتعدّ سكانها الثلاثمئة، وتمزّقت المشاعر، واختلطت فيها أشلاء الموت برائحة بارود القنابل. تعوّد الأهالي لمّ غلالهم فهو أيلول الحصاد الذي ينتظرونه ليبنوا مستقبلا لأطفالهم، لم يعرفوا أن الحصاد سيكون لأرواح أطفالهم وأن الغلّة ستكون حمراء بالدم في أكفان فلذاتهم.

قبلة الوداع الأخيرة
كالعادة عاد الأطفال من المدرسة الى بيوتهم في طريق ترابي، مرّوا منها مرّات ومرّات، حتى تحوّل الطريق، في أيلول، إلى جحيم واختلط تراب فلسطين مع دماء أطفال صندلة ليزيد التراب من قدسيته قدسيّة. ففي أيلول قُتِلنا في كفر قاسم وفي أيلول فجعنا في صندلة، أيلول أصبح اسود بعد المجازر في الأردن حتى قبل أن يسوَدّ حلكة في صبرا وشاتيلا.  اعتقدوها دمية فاجتمعوا يلعبون بالوقت والموت، الى أن انفجرت الكرة الحديدية، وسقط الأطفال في هدوء الموت وعلى صرخات الأهالي الذين سمعوا صوت الموت القادم عن بُعد في سحابة من الغبار وانفاس فلذات أكبادهم الأخيرة. وصل الأهالي الى كومة من الأطفال وأشلاء، هول المصيبة أفقدهم القدرة على البكاء، حملوا أشلاء أبنائهم ورقصوا بها في رقصة الموت، رقصوا رقصة الموت، فطيور الجنّة أصبحت تتراخى عيونها وتذبل أجفانها وترتعش أطرافها، في قبلة الوداع الأخيرة. رقصة الموت هذه وقبلة الوداع الأخيرة، سلبتهم القدرة عن التعبير عن مصابهم لعشرات السنين، فكلّما سألت جدي الذي فقد طفلته وأربعة عشر طفلا من أطفال عائلته، عن الواقعة، كانت تعابير وجهه تخترق القلب بسيف يفجّر حزنا فوق تحمّل البشر.


وبقيت هذه القرية مطوّقة بمجزرتها
نعم هول الكارثة، بقي في صدور اهالي الاطفال الضحايا، فكان احياء الذكرى في حياة اهالي الاطفال، ليس احياء للجرح، فهو ليس جرحا، بل قتلا للنفس، نفس الاب الذي رقص باشلاء ابنته، وقتل للام التي عفرت تراب الموت فوق عينيها. مات الصغار ورقص الكبار رقصة الموت، وبقيت هذه القرية مطوّقة بمجزرتها، حتى الى ما بعد التخلّص من الحكم العسكري وحكم العميل المديني، الى أن توفي آخر الثاكلين/الثاكلات من الآباء والأمهات.  واكتفت اسرائيل آنذك بإصدار بيان، تتّهم به القضاء والقدر، ووصفوا القنبلة التي قتلت الأطفال، بالجسم الغريب، فإذا صحّ وصفهم، وهو صحيح، فكما كانت القنبلة القاتلة جسما غريبا، دخلت أرضنا أجسام غربية وشرقية، غريبة، من بن جوريون الغربي الى بن اليعيزر الشرقي. أنا من قرية الخمسة عشر طفلا التي مزّقتهم قنبلة "منسيّة" تسلّلت الى مساراتهم التعليمية، قلت للشاعر محمود درويش، بعد أن انتقل الحديث بيننا في بيت أخيه، من منطقة المزاح والملوخيّة الى وقائع الشعب اليومية، فكانت حصّة أطفال صندلة من قصيدته الأخيرة "لاعب النّرد"، سرّا سأبوح به لأبي فراس (شقيق محمود)، بعد نشر هذا المزمار.
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى !
ذكرت ذلك لأنّ القصيدة، في حالة مجزرة صندلة، كانت الشاهد الباقي على الحدث، فالقصيدة التي كتبها الشاعر راشد حسين، عن المجزرة كانت، الشعلة التي بقيت منارة، حتى في وقت ذبلت فيه قلوب الثّكالى، حيث أبدع في وصف ضحايا صندلة في قصيدته "الغلة الحمراء" التي يقول فيها:
مرج ابن عامر هل لديك سنابل أم فيك من زرع الحروب قنابل ؟
أم حينما عز النبات صنعت من لحم الطفولة غلة تتمايل
فأذا الصغار الأبرياء سنابل وإذا القنابل للحصاد مناجل
يا مرج قل لي هل ترابك سامع ؟ أم أنت عن صوت الملامة ذاهل؟
وتابع الشاعر في وصف هول الحدث فيقول:
واليوم أبكيت القلوب فما عصى دمع ولكن القلوب تسائل:
هل بعد ان كنا نلم غمورنا وعلى الشفاه تبسم وتفاؤل
نأتي نلملم عن ثراك لحومنا وكأننا كنا عليك نقاتل ؟
أبناؤنا من طين صدرك لحمهم فالوجه مثلك أسمر متفائل
أبناؤنا طيات أرضك أمهم هل تقتل الأبناء أم عاقل؟
أبناؤنا بالأمس أنت غذوتهم أتراك جعت فهم اليك مأكل ؟

 

وفي نهاية القصيدة تتجلّى إنسانية راشد حسين فيقول:
قالوا القنابل عبقري صاغها صدقوا........ولكن عبقري سافل
آمنت بالإنسان يبني مصنعا للحب .......لا لمدافع تتقاول
آمنت بالإنسان هب محاولا لأخوة........لا للخصام يجادل
آمنت.......لكن لكل يوم دافع للكفر بالإنسان حين يقاتل
يا اخوتي حضن الأمومة بيتكم واليوم احضان التراب منازل
يا غلة حمراء كنت براعما خضراء.....فيها للشباب دلائل
يا قصة ما أكملت فكأنما مات المؤلف قبلما تتكامل
أيجيد هذا الشعر حق رثائكم أم ان قول الشعر وهم باطل؟؟

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 


مقالات متعلقة