الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 14:02

مريضة الغرفة 72/بقلم: د.سميح مسعود

كل العرب
نُشر: 27/06/13 19:44,  حُتلن: 19:54

(قصة واقعية مهداة الى حسناء وعبد السلام دراوشة، وصالح ووائل وصفية ونجلاء وإقبال وآمنة ناطور)

لم يشأ الطبيب المختص أن يُخفي عنها خطورة حالتها الصحية، فبعد إجراء كل الفحوصات اللازمة بيّن لها من واقع ماتوفر له من صور أشعة مقطعية عديدة أنها تعاني من إنحناء غير طبيعي في عمودها الفقري وإنضغاط شديد في جذر العصب، لا يمكن إزالة آلامه المبرحة بالأدوية المسكنة وجلسات العلاج الطبيعي وغيرها من الطرق العلاجية التحفظية، بل بإجراء عملية جراحية كبيرة عاجلة لإسترداد قدرتها على المشي من جديد، وأكد وهو يضغط على مخارج كلماته قائلا لها بصوته الذي صقلته التجربة:
"إن مرضها جسيم له آثار سلبية وخيمة إذا تُرك بدون إجراء عملية جراحية بأقرب فرصة ممكنة".

تملكها فزع شديد أثار في نفسها ضيقا لم تعرف كنهه من قبل، وظل هذا الضيق يسيطرعليها حتى سمعت الطبيب يقول لها من جديد:

"إما الخضوع للعملية الجراحية أو البقاء جالسة طيلة ماتبقى من حياتك على كرسي متحرك كما أنت عليه الأن".
نظرت الى الطبيب متفاجأة بما سمعت عن سوء حالتها الصحية، بدا القلق في عينيها... لم تقل أي شيء ، لزمت الصمت، شعرت بقلبها يخفق بقوة في صدرها، وبكلمات طبيبها تمسك على أنفاسها، خيل لها أن كل شيء في حياتها أخذ يتغير بسرعة، ويظهر بوضع جديد لم تألفه من قبل، أدركت فجأة أن حالتها دقيقة وحرجة وعلى درجة عالية من الخطورة... تاهت بأفكارها، تنقلت بإرتباك كبير بين معالم رئيسية عاشتها فيما مضى، تذكرت فيها لحظات هنيئة شاركها فيها زوجها وأولادها.

بعد لحظات قليلة رمقت طبيبها بعينين تائهتين، وهي تجلس منقطعة الأنفاس على كرسي متحرك على مقربة منه، تمتمت بكلمات غير مسموعة وهي شاردة البال وكأنها تهمس لنفسها، ثم فجأة تدافعت الكلمات من فمها بإنفعال واضح في نبرة صوتها، سألت الطبيب أسئلة كثيرة نابعة من هواجسها، طلبت بها توضيح جوانب طبية كثيرة تتصل بأدق تفاصيل العملية الجراحية، عن حيثيات مسار بدايتها وأثناءها وبعدها، وبما تحققه لها من تحسن في حالتها الصحية، صاغت أسئلتها بمزيد من الوعي والإدراك لجوانب كثيرة من الثقافة الطبية العامة.

حدثها الطبيب عن مرضها في إسهاب واضح، بين لها أنه في الطب المعاصر أصبح كل شيء ممكنا في متناول اليد، وعلى الانسان ألا يستسلم للمرض، لا أبد أن يقف في وجه العقبات مهما بدت صعبة التخطي، والألام مستعصية على الهزيمة، كما أكد لها بشكل خاص أن التقدم الكبير في مجال الطب يزيد من نجاح التدخل الجراحي في مجال جراحات العمود الفقري والإنزلاق الغضروفي، يمكن بالتقنيات الجراحية الحديثة مساعدة المريض خلال فترة قصيرة من الزمن على تحسين أحواله الصحية وعودته الى وضعه الطبيعي في ممارسة حياته اليومية والمهنية.

ساعدتها توضيحاته العلمية على الإمساك بخيط رفيع ملأ قلبها بالأمل، والشعور بقدرة الخروج من ظلام الصدمة وتقبل الشدائد الطارئة، أيقنت من حديثه أن الحياة هي الحياة يسير فيها الإنسان على حبل دقيق من مرحلة الى أخرى، ومن يوم الى يوم أخر، فيها المرض والألم، والفرح الحزن، وفيها الضوء الساطع والظلمة الشديدة الحالكة، أقنعت نفسها أن الحياة كلها مبنية على تجليات هذه الثنائية، وأن الجوانب الإيجابية للحياة تتمحور في الموازنة بين كل تلك المعطيات، فيها تكمن دلالات رحلة الوجود الإنساني بكل أبعادها... فيها سر الحياة بكل مافيها من فرح ومتعة ومرض وحب وأحلام صاخبة ودموع وأحزان وقوة وحيوية وقدرة على إحتمال المتاعب والمصاعب ومواجهة ألوان عسيرة من الأمراض والأحزان.

تذكرت ما قاله الشاعر بيرون حول الضحك والبكاء "ما ضحكت على مشهد بشري زائل إلا وكان ضحكي بديلاً أستعين به على البكاء".

قادتها كلماته إلى فهم عميق لأهمية الضحك... رسمت على وجهها طيف إبتسامة مفتعلة معلنة بذلك قدرتها على إحتمال تداعيات ماساة المرض، ومواجهة متاعب الحياة.
أجرت حسابات كثيرة في رأسها، أعادتها إلى عالم اليقظة، أمسكت بخيط دقيق من الوعي يصل ما بين واقعها الحاضر وبداية واقع جديد منتظر، إستطاعت به أن تقرر ما عليها فعله في لحظات قصيرة، لم تكن بحاجة لأكثر من عدة دقائق لتحديد موقفها بعد أن عرفت كل ما تحتاجه حول العملية الجراحية المطلوبة وما سيترتب عليها من نتائج.

إستدارت وهي جالسة على كرسيها المتحرك ناحية زوجها الواقف إلى جوارها، وقالت له بصوت هادئ:
"لا مناص من إجراء العملية الجراحية"
أومأ برأسه علامة الموافقة وقال لها:
"نعم لا بد منها"

نظر إليهما الطبيب من فوق نظارته السميكة، وقال بنبرة حاسمة:
"يمكنني إجراء العملية غدا في الساعة التاسعة والنصف صباحا"

طلب منهما الإتجاه عبر بهو طويل بجانب مكتبه الى حيث يوجد مكتب إستقبال وإدخال المرضى في المستشفى، لإتمام كافة الفحوصات الطبية والمخبرية، وتعبئة الأوراق اللازمة لإجراء العملية الجراحية، وبعد أن أتما كل ما طلب في هذا الشأن، صعدت مع زوجها وهو يدفع كرسيها المتحرك إلى الدور السابع، وسرعان ما دخلا إلى الغرفة 72 التي خصصت لهما، للمريضة وزوجها المرافق لها.

ألقت نظرة سريعة على الغرفة... إكتفت بالنظر بتمعن على السرير الطبي بملحقاته الحديثة من حمالات المغذي وأجهزة كثيرة للتنفس الصناعي وقياس ضغط الدم وما يتبعها من تجهيزات وتقنيات أخرى متطورة ضرورية لخدمة ورعاية المريض.
قضت أول ليلة في المستشفى في عزلة تامة، أعادت من ذاكرتها أحداث أيام مضت طواها الزمن البعيد من مسار حياتها الخاصة، غاصت في أعماق الذاكرة، إسترجعت بلهفة بعض أشياء كثيرة مختزنة من صور قديمة لأطفالها من بواكير أيامهم، أخذت تطفو أمام عينيها مجبولة بأصوات بعيدة تسري في هدوء وبنغمة واحدة ، حملقت بشوق في طيف وجه كل واحد منهم ، طافت معهم في أماكن كثيرة ، وأعادت بسعادة زائدة تركيب حكايا كثيرة مترابطة لهم من أيام طفولتهم البعيدة لم تخطر ببالها منذ زمن طويل .
ذكريات كثيرة لاحت لها من تراكم الأيام في حياتها، مرت على خاطرها مرا سريعا في سلسلة طويلة ، حاولت من خلال استحضارتفاصيلها المترعة بالفرح أن تخفف من وقع الضغوط النفسية عليها ، وأن تمتع نفسها في جو من الهدوء بعيدا عن مخاوف الغد الأتي .
لم تستطع النوم ، مر الليل ببطء شديد وهي تستعيد صورا كثيرة لا تنسى من ماضي أيامها تشابكت أمام ناظريها ، تنقلت من صورة إلى أخرى , وتأكد لها أن تذكُر اللحظات السعيدة في حياة الإنسان تقوي الأمل في داخله وتزيده قدرة على تحمل الآلام والأوجاع التي تصيبه .
شيئا فشيئا إنحسرالظلام، واتشح الكون بخيوط رفيعة من الضوء نسجتها تباشير الفجر بلا انقطاع ، وكما هو الحال في كل مكان دبت الحركة في المستشفى مع الصباح الباكر .
كانت غرفتها قريبة من مكتب ادارة جناح العمليات ، تغدو وتروح فيها الممرضات كما تقتضي ظروف عملهن ، دخلت عليها احداهن مبكرا ، تجاذبت معها في البداية أطراف حديث عادي وهي تتكئ على حافة طاولة صغيرة مثبتة بجانب سريرها ، ثم قامت بقياس ضغط دمها وطمأنتها على أنه في حدوده الطبيعية ، وتمنت لها النجاح في عمليتها الجراحية .

بعد فترة من الوقت وصل أحد الممرضين لنقلها الى قاعة العمليات الكبرى ، قام بدفع سريرها وهي ممدة عليه إلى خارج الغرفة ، سار زوجها إلى جانبها وهو يمسك بيدها ، بدا هادئا وعيناه تركّزان على عينيها ، حدثها بصوت منخفض محاولا أن يخفف عنها شعور الخوف والرهبة من العملية ، وعندما وصلوا إلى المدخل الخارجي لقاعة العمليات ، طلب منه الممرض توديعها والذهاب إلى قاعة خاصة للإنتظار، تأثر كثيرا عندما افترق عنها ، لوحت له بيدها مودعة وهي تبتعد عنه ، قال لها بصوت قلق ممزوج بالإضطراب :
" بانتظارك لا تتأخري "
اتجه إلى قاعة خاصة للإنتظار خارج قاعة العمليات ، سار ببطء وكأنه لا يدري ما يدور حوله ، جلس اكثر من سبع ساعات مرت دقائقها عليه كأنها أعوام ، حرك وضع زوجته الصحي مشاعره وشجونه ، استرجع في مخيلته لحظات كثيرة قديمة لها مذاق خاص من حياته معها ، توالت على امتداد اربعين عاما ، وفيما كان يسترجع تلك اللحظات تقدم نحوه طبيب زوجته ، انتصب أمامه بقامته الفارعة وابتسامة لطيفة تعلو وجهه ، قال له بلهجة تنم عن السعادة :
" نجحت العملية "
ثم أردف مستطرداً :
" كل شئ تم على أفضل وجه ، يمكنك الأن زيارتها في غرفة العناية المركزة، وبعد يومين أعدك أنها ستقف على رجليها ، وان تخطو عدة خطوات بمساعدة الغير "
تضرج وجهه احمرارا من شدة الإنفعال ، جز على أسنانه ، وقدم الشكر الى الطبيب على حسن صنيعه ، شعر بشئ من السعادة تسري في أوصاله ، وبرغبة شديدة لرؤيتها .
توجه نحو غرفة العناية المركزة ، سار بخطى واسعة عبر ممر طويل ، وسرعان ما دخل الغرفة المطلوبة ، وجد زوجته ممددة على سريرها غارقة في نوم عميق وقد اكتسى وجهها بلون باهت ، شعر بحزن عندما وجدها تلتقط أنفاسها بأجهزة اصطناعية .
جلس إلى جوا رها ، أدار بصره حولها في كل الجهات ، أذهله وجود أجهزة طبية كثيرة تعلو سريرها متصلة بها بأنابيب مطاطية تعطي اشارات وذبذبات متواصلة كثيرة تظهرعلى عدة شاشات باحجام مختلفة ، اقترب من تلك الأجهزة وأخذ ينظر فيها محدقا دون أن يعي ماذا يرى ...تأكد من الممرض المرافق لها أن البيانات التي توفرها تلك الأجهزة تشير إلى أنها على خير ما يرام ، وسوف تصحو من نومها بعد ساعات قليلة عند انتهاء اثر جرعات التخديرالتي أعطيت لها أثناء إجراء العملية الجراحية .

بقيت على هذا الحال طيلة يومين كاملين، بعدها نزعت عنها وصلات الأجهزة الطبية ، ومن ثم أفاقت من النوم وهي تتنفس بشكل طبيعي ، إستدارت نحو زوجها وعيناها تلمعان ، وقالت :
" هل نجحت العملية "
إقترب منها مبتسما وقال :
" إطمئني تم كل شيء على خير ما يكون "
بدت علائم الرضا على وجه الطبيب المناوب ، تحدث معها وأكد لها سلامة وضعها الصحي ... شكت من ألم شديد كانت تحس به في ظهرها من اثر العملية الجراحية ، بين لها أن عمليتها كبيرة جدا ومن الطبيعي أن تسبب ألما لها ، يمكن تخفيف حدته بالادوية المسكنة ، ومضى يطمئنها بأن الألم الذي تحس به سرعان ما تخفت حدته ويختفي تدريجيا بعد أيام معدودة .
نقلت في اليوم التالي من غرفة العناية المركزة الى غرفة عادية في الجناح الخاص بمرضى العمود الفقري ، وفي نفس اليوم زارها طبيبها الجراح ، طلب منها الوقوف على رجليها ... وقفت وسارت بمساعدته عدة خطوات قصيرة في داخل الغرفة ، خطوة قادت إلى خطوة أخرى ، وهكذا اثبت لها عمليا نجاح عمليتها الجراحية .
بعد اسبوع واحد عادت إلى بيتها ، أخذت تمشي مستندة على عصا ، وتتعرض لألام عسيرة لا حدود لها ، واجهتها بكم كبير من الأدوية المسكنة ، وتدريب النفس على الإحتمال ... أقنعت نفسها أن الحياة في حقيقتها احتمال للمصائب والاحزان ، وعليها مواصلة الحياة بروح مرحة وقدرة على اعتصار البسمة من الألم .
أختارت التفاؤل على أمل أن تندفع فيها قوة الحياة من جديد ، وترجع مع الأيام الى سابق عهدها بالمشي الطبيعي على رجليها دون الاستناد على عصا ، وأن تتمكن من التخلص من منغصات ظروفها الصحية القاسية ، والعودة ثانية إلى رحابة الحياة العادية واتساعها ، وإلى كل ما ترتضيه الفطرة الانسانية السليمة .

كاتب فلسطيني يقيم في مونتريال - كندا

 موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة