الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 13:01

المحامي جريس بولس: لماذا انتصرت الصهيونية؟

كل العرب
نُشر: 15/04/11 13:08,  حُتلن: 13:09

المحامي جريس بولس في مقاله:

إنتصار المشروع الصهيونيّ يكمن في ان قياداته ادارت الصراع بصورة شمولية، وعلى اساس استراتيجيا صراعية متقدمة

انتصار الصهيونية ليس مصادفة. واسرائيل لم تنتصر على العرب بصورة متتالية من دون أسباب، فللإنتصار اسبابه مثلما للهزيمة اسبابها

نظام عبد الناصر بني على أسس الديموقراطية لتغير الوضع ولو كانت الديموقراطية هي التي حَكمت وتحكم العلاقات في الثورة الفلسطينية لتغير الوضع ايضاً

اسرائيل استطاعت ان تحقق معظم اهدافها وهي تتحدَّت بلغة دفاعية، حتى جيشها يسمى "جيش الدفاع الاسرائيلي" بينما هي في الواقع كانت باستمرار في حالة هجوم
 

 حين كنت أجوب شوارع بودابِسْت الساحرة، عاصمة الدولة الهنغاريّة (المجر)، وإذ بي أقف أمام مبنىً ضخم هو أكبر كنيس لليهود في اوروبا وعلى أحد أعمدته كتب "כאן עמד בית הולדתו של תאודור הרצל" (هنا بيت ولادة ثيودور هرتسل) فأصابَتْني القشعريرة وتذكرت للتوِّ نكبة فلسطين والصهيونية التي كانت سببها. لقد انتشرت الصهيونية بين جماعة من مثقّفي شرق اوروبا الذين أدَّى تعثر التحديث في بلادهم الى إغلاق أبواب الحراك الاجتماعيّ أمامهم، وقد توقف حراكهم لأنهم يهود (أو هكذا توهّموا إذ أن تعثر التحديث في الواقع قد أثر في الجميع، الأغلبية وكل الأقليات الاخرى).

وجود اليهود في المنفى
والصهيونية ترى ان وجود اليهود في المنفى (بل يهودية المنفى نفسها) يشكلان عبئاً ثقيلاً يحمله اليهوديّ ويعاني بسببه ولذا انطلق الصهاينة من رفض جذريّ لحالة النفي الى ان وصل هرتزل مكتشف الصيغة الغنوصيَّة التي تتلخص في انهاء حالة المنفى، وتطبيع الشخصية اليهودية (الجسمانية أو النفسانية)، اي تغييرها تماماً وربما تصفيتها حتى يظهر العبراني الجديد أو اليهودي الخالص (النوراني) الذي لا يعاني من أي ازدواج في الولاء أو انشطار في الشخصيَّة، ولذا سيحمل عصاه وينهي حالة المنفى تماماً. ولكن بدلاً من خداع حكام الارض (من الأغيار) فهو سيتحالف مع بعضهم (الإمبريالية العالمية) وسيطرد البعض الآخر (العرب) ويعود الى صهيون ليصبح اليهود كلاً عضوياً واحداً (نورانياً)، فيعيش شعب اسرائيل في أرض اسرائيل مع إله اسرائيل في حالة البليروما الكاملة التي هي بداية التاريخ اليهودي أو استئنافه.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا انتصرت الصهيونية؟ وما هي عناصر تفوقها في الاستراتيجيا والتكتيك؟

هذا السؤال يجب ان يشغل عقل كل مُفكر وقائد وَحزب عربي. ذلك بان انتصار الصهيونية ليس مصادفة. واسرائيل لم تنتصر على العرب بصورة متتالية من دون أسباب، فللإنتصار اسبابه مثلما للهزيمة اسبابها. ولعل النصر او الهزيمة يتقرَّران قبل حدوثهما ، يتقرَّران في مقدماتهما على اكثر من مستوى وصعيد.

القوة الشاملة
ان اول اسباب إنتصار المشروع الصهيونيّ يكمن في ان قياداته ادارت الصراع بصورة شمولية، وعلى اساس استراتيجيا صراعية متقدمة. ويخطىء من يظن ان الحركة الصهيونية مجرد عصابات منفلتة. يمكن وصفها خلقياً من جانبنا بالعصابات لكنَّها في الواقع قامت بدورها ووظيفتها ارتباطاً باهدافها من النقطة التي وصلت اليها اوروبا والدول الصناعيَّة على صعيد التطور. هذا عنوان اول. العنوان الثاني هو تَرْكيم مكونات القوة الشاملة واستخدام آخر ما وصلت اليه العلوم التطبيقيّة والادارة والسياسة من إنجازات، اي ان اسرائيل تعاملت مع مفهوم القوَّة بصورة شاملة.

قوة اسرائيل العسكرية
بهذا المعنى تعتبر قوة اسرائيل العسكرية تتويجاً لمنظومة متكاملة من التقدم التعليمي والعلمي والسياسي والاجتماعي. وقد احتلَّ العلم مَكانة متقدِّمَة في الاستراتيجيا الصهيونية، بدءاً من إنشاء الجامعة العبريَّة في العشرينات، مروراً بامتلاك مقدمات انتاج الاسلحة الذريَّة في الخمسينات، وصولاً الى تطوير انتاجية العمل في الصناعة والزراعة بصورة كثيفة. لم يكن هذا ليكون لولا اعتماد معايير ادارة سياسية في المجتمع تحفظ حيويته وترتقي بديموقراطيته الداخلية، معايير تعود دائماً الى ما هو سائد في اكثر الدول تطوراً. ولم تهبط اسرائيل بمعايير ادائها الى مستوى اداء خصمها العربي. هكذا نجد ان المسافة أو الفجوة، التي رافقت بواكير الصراع الاولى استمرت في التوسع والتعمق مع مرور الزمن، الامر الذي تُرجم دائماً بهزائم عربية متتالية.

مصلحة المشروع العليا
الموضوع الآخر، في هذا السِّياق، يتمثل في صوغ معايير تتلاءم مع مصلحة المشروع العليا، وهي معايير كانت تتخطى الافراد والاحزاب، وفي ضرورة الارتقاء بالافراد الى مستوى حاجة الوظيفة والدور المطلوب تأديتهما وليس العكس. كما ان هناك مسألة اخرى هي نجاح الحركة الصهيونية في استثمار ما هو مُتاح ومتوفر من امكانات باعلى درجة من الكثافة وتقليل التبديد الى ادنى مستوى. ويشمل هذا الاستفادة من الشَّتات اليهودي، ومن الكفاءات اليهودية المنتشرة في العالم، لخدمة المشروع المركزي. يضاف الى ذلك، القراءة العلمية لمعطيات الواقع في كل مرحلة من المراحل، وتحديد المهمات بالاستناد الى ما هو قائم وممكن للاقتراب خطوة أو خطوات من اهداف المشروع. وهكذا نجد ان اهداف المشروع الصهيوني المرحلية/ التكتيّة كانت في حركة دائمة الى الامام. وما ان تتحقق الاهداف في مرحلة معينة حتى تصبح اساساً مادياً ثابتاً لمنظومة جديدة من الاهداف الابعد، وهكذا.

الرؤية ودقَّة الأداء
لهذا اتصفت الاستراتيجيا الصهيونية بعلمية الرؤية ودقَّة الأداء، واتّسمت بمستويات متنوعة بعضها معلن وبعضها مضمر، لكنها لم تكن غامضة بالنسبة الى النخب القيادية الصهيونية. وكان التكتيك يتسم بالمرونة العالية ارتباطاً بمعطيات الصراع والواقع. لهذا نجد ان اسرائيل استطاعت ان تحقق معظم اهدافها وهي تتحدَّت بلغة دفاعية، حتى جيشها يسمى "جيش الدفاع الاسرائيلي" بينما هي في الواقع كانت باستمرار في حالة هجوم.

مما تقدم نخلص الى نتيجة: هي ان النصر مشروط بمقدماته
وبقدر ما ان الصراع كان يجري بين حق وباطل، فأنه أيضاً كان يجري بين حق ضعيف وباطل قوي، بين حق لم يستثمر ما يملك من امكانات بصورة كثيفة، وبين باطل يراكم عناصر القوة واستثمار عامل الزمن بصورة متواصلة. هكذا استمرت المساحة في الاتساع بين حق يفقد مواقعه عملياً، وبين باطل يتقدم ويواصل الهجوم. ان اسباب انتصار الطرف الآخر هي اسباب هزيمة بالنسبة للعرب. وهنا اود ان اضيف ان اميركا وقوتها عامل مهم لكنهما عامل خارجي، وليسا الاساس في هزيمتنا، حتى ولا دور الرجعيّة العربيَّة، أو الخونة، هو الاساس. يجب ان نتوقف امام اخطاء القوى التي راهنَّا على الانتصار معها. يعني موضوع حركة التحرر العربية، موضوع عبد الناصر، موضوع اليسار الفلسطيني. أي، باختصار، البحث عن اسباب الهزيمة اولاً في الداخل، في الذات، من دون إغفال العوامل الموضوعية طبعاً.

الديموقراطية!!!
اول ما يجب التركيز عليه هو الديموقراطية. لو قام نظام عبد الناصر على أسس الديموقراطية لتغير الوضع. ولو كانت الديموقراطية هي التي حَكمت وتحكم العلاقات في الثورة الفلسطينية لتغير الوضع ايضاً. لتفسير اسباب الهزيمة، لا اكتفي بموضوع الديموقراطية. انا اريد تحديداً وتحليلاً كاملين للهزيمة، بما في ذلك اسلوب العمل والقوانين التي حكمت كل هذا.
اعطي مثلاً واحداً وهو قانون معروف، أو يفترض ان يكون معروفاً وحاضراً باستمرار، اقصد مبدأ تراكم وتكامل العوامل والمراحل. وقد كان على الثورة الفلسطينية وحركة التحرّر الوطني، ان تعمل على اساس هذا القانون. طبعاً، ليس هذا هو القانون الوحيد. في اية حال، لو عملنا بحسب هذا القانون، وقلنا: ليس بالضرورة ان تأتي الوحدة العربية كاملة دفعة واحدة، لتمّ مثلاً حل موضوع جوازات السفر، أو موضوع اقتصادي معين وهكذا ... بمعنى التراكم والتكامل على مختلف الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية ... إلخ هذا كما قلت قانون من القوانين التي كان من المفروض ان تحكم العمل.

الانتصار على المشروع الصهيوني
وفي نهاية مقالي اريد ان اؤكد انه يجب اولاً ان يتم الانتصار على المشروع الصهيوني. وسبب تركيزنا على هذا الامر هو انه قضية موضوعية. إذ لم ننتصر على المشروع الصهيوني ستأتي اسرائيل وتأخذ كل شيء: كرامتنا وارواحنا وثرواتنا واقتصادنا، وما الى ذلك. ثم ان الانتصار على المشروع الصهيوني مرتبط بعمل سياسي ناضج يوحّد كل امكانات هذه الامَّة بدلاً من البعثرة القائمة الآن في مواجهة الحركة الصهيونية.
وعلينا ان نعرف اننا دول متخلفة، وأمّة متخلفة، تحتاج الى عملية نهوض شاملة، تأخذ بعين الاعتبار الأصالة والحداثة كما يجب تنظيم مجتمعاتنا على اساس التنظيمات والنقابات المتخصصة والمهنيَّة. هذا هو التصور العام ونتمنى النجاح للثورات المباركة في العالم العربي لعلّها تؤدي الى الهدف المنشود.

مقالات متعلقة