الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 14:02

الجدار... قصة: سمير الجندي

كل العرب
نُشر: 02/12/10 22:58,  حُتلن: 23:15

حاول أن يتماسك، ضغط على تدفق الألم الذي انبعث من بين أضلاعه المتوجعة، تسللت الذكريات من مسامات جلده، ذرف دمعا حارا، كوى بلهيبه قلوب مواسيه، صُدم بما رأى وهو يحاول المرور عبر حاجز قلنديا العسكري، كانت زوجته وحيدة تحاول إقناع المجندة الإسرائيلية بالسماح لها بالمرور إلى الرصيف الآخر من الطريق، ذلك الطريق الذي قطعه جدارٌ بطول المأساة الفلسطينية إلى نصفين...

صرخ بأعلى صوته مناديا زوجته، يا جميلة... يا جميلة... ارجعي... ارجعي... يريد منها أن تعود قبل حدوث ما لا يُحمد عقباه، لكنها لم تسمع إذ كان الجو عندها مفعم بالغضب، والفضاء مليء بالحقد الصهيوني، وعيونهم الرمادية مثبتة على أفواه بنادقهم الأمريكية، بكى بحرقة شديدة وهو يحاول لفت انتباه زوجته جميلة محاولا إرجاعها، كانت المسافة بينه وبين زوجته مقدار الهواء المشبع بالألم والرجاء والغضب والأمل وأصوات القهر وصدى الأوجاع الذي يفصل طرفي الحاجز الصهيوني، لم تسمع ولم تسمع ولم تسمع، وهو لم يكف عن الصراخ المصحوب بصوته المذبوح، هو يراها بأم عينيه، لكنها تبدو بعيدة بعيدة، وكأنها على الطرف الآخر من الكرة الأرضية...

جميلة وزوجها صالح أحبا بعضهما منذ نصف قرن، كانت تأتي إلى بيت صالح تساعد خالتها - والدة صالح- في حلب الغنمات، كان لونها القمحي يجذبه إليها، فكانت تنظر إليه بتلك العينين العسليتين التي يشع منهما بريق يسحره كلما نظرت إليه من تحت طرف، تلك النظرة الخجولة التي كبّلته بقيودٍ لم يقدر على مقاومتها، كان يحب وشاحها الأبيض المطرزة أطرافه بخيوط من الحرير الأحمر، لكنه كان يسترق إليها النظر عندما تضع الوشاح على كتفيها ظنا منها أن لا أحد يراها، فقد عشق ذوائب شعرها المتدلية من تحت الوشاح الحريري، كان الوشاح ناصع البياض وكان شعرها أسود كليل خاصمه القمر، عندما تحضر إلى بيتهم كانت تأتي في الصباح الباكر مع شروق الشمس، وكان صالح يقفز من فراشه على وقع صوتها الذي كان يعبث بكل خلايا جسده فيوقظها خلية خلية، ويبقى صدى صوتها يرن في أذنيه بقية يومه، وكانت سعادته تكتمل عندما تطلب والدته من جميلة وضع الزوادة في صرته، خبزة طابون، وحبتي بنادورة، وقرن فلفل حرّاق، وفحل بصل، وكمشة زيتون، وعبق من رائحة جميلة، عندما ينتعل كل شيء ظله كان صالح يجلس تحت شجرة زيتون يحمي نفسه من قرص الشمس اللهاب، يستمتع بطعامه، ثم يتناول شبابته، ليعزف نغما صنعه خصيصا لجميلة وهي لا تدري، لقد كان كتوما لا يفصح عن مشاعره لأي كان،تأججت أحاسيسه و اتسعت مداركه، وصارت جميلة أهم أمنياته التي يحلم بتحقيقها، أما جميلة فقد عجزت عن إخفاء مشاعرها عن خالتها، فقد فضحتها عيناها عندما كانت تختلس النظرات نحو صالح، فتبتسم أم صالح تلك الابتسامة المخفية والتي تعبر عن سعادة غامرة.

ورث صالح عن أبيه الذي استشهد في أحداث البراق في البلدة القديمة من القدس،في اليوم التاسع من آب سنة ألف وتسعمائة وتسع وعشرين، ورث عنه شهامته وتصميمه ومحبته لأهل بلده ووطنه، كما ورث عنه قوة البدن، وساعدين قويين، يمكنانه من حرث الأرض، وجمع محصولها دون كلل، وجهه بيضاوي أسمر، مربوع القامة، عريض الكتفين، يعتز بشاربه الذي يشهد على رجولته المبكرة أمام أقرانه...

تزوجا تملؤهما السعادة، وصارا حديث القرية، عملا سوية بأرضهما التي لم تبخل عليهما بعطائها أبدا، ولم يغره بريق المال مثلما فعل الكثيرون من أبناء قريته عندما تركوا أراضيهم عرضة للخراب والمصادرة، وذهبوا للعمل في بناء مستوطنات اليهود طمعا في المال...

ما زال يصرخ مناديا جميلة بأن تعود ولا تجادلهم، هي الآن مريضه تحاول المرور عبر الحاجز للوصول إلى مستشفى المقاصد بالقدس، لكن المجندة الإسرائيلية لا تسمح لها بذلك، وجميلة متوجعة تحاول إفهامها بالإشارة نحو كليتها فهي بحاجة لغسيل كليتها فورا...

أُغلق الحاجز من طرفيه كليا، علت أصوات المركبات المكتظة أمام الحاجز، وتدافع الناس، النساء والأطفال والشيوخ والشباب كل يلعن كل شيء، يلعنون الزمن ويلعنون الحظ العاثر، ويلعنون التخاذل واسلو ومدريد وكامب ديفيد ومجلس الأمن وحقوق الإنسان، ويلعنون يوم مولدهم ، ويلعنون القهر، ويلعنون اللون الأسود التي اتشحت به حياتهم، ويلعنون فضاء القهر المتسع...

جلس صالح عل طرف الرصيف واضعا رأسه بين يديه، وكف عن الصراخ، فقد شعر بنبضه يتكاسل، وأخذ الدمع يتدفق من عينيه مدرارا، لم يلتفت إليه أحد، كل كانت أنظارهم باتجاه الطرف الآخر من الحاجز، شاع خبر امرأة سقطت شهيدة هناك، وبقي صالح هنا جثة هامدة بلا حراك...
 

مقالات متعلقة