الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 10:02

في الشهداء من الحياة ما بخلت به الحياة على الأحياء - جريس بولس

كل العرب
نُشر: 22/05/10 11:01,  حُتلن: 07:53

- جريس بولس:

* يا أبطال الفكر الصريح متى تأتون؟ ويا أبطال الثورة الفكرية والاجتماعية متى تهتفون؟

* في مطلع العصر الحاضر كانت البلاد العربية يُخيِّمُ عليها حكم جائر من الظلم والجهل والفوضى

* يا شهداء المستقبل آن لكم أن تركبوا او يا شهداء الماضي ويا أبطاله آن لكم أن تترجلوا، ولكن لا .... لا .... لا تترجلوا!

"ألا إنه لم يذل، والله، ما كان الحق معه، وان كان مفرداً ضعيفاً، ولم يعز من كان الباطل معه، وان كان في العدّه والعدد والكثرة". (عبدالله بن الزبير). إن هذا اليوم – يوم 6 ايار – لم يكن في تاريخ العرب يوماً عادياً كسائر الايام، وانما كان يوم العاصفة، يوم الثورة على حياة مظلمة ميّتة، ويوم ميلاد حياة جديدة للحياة نفسها! ...
في مثل هذا اليوم – من كل عام – نفتح صحيفة مقدسه، مطويّه، لم يعرف التاريخ العربي أنقى منها ولا أبقى! لأن فيها ذكرى الماضي لمن أذَّكر، وفيها درس للاتي لمن فكَّر!

الجمل الذي كان يَجْترّ المظالم صابراً في صحرائه تحرك..
في مطلع العصر الحاضر كانت البلاد العربية يُخيِّمُ عليها حكم جائر من الظلم والجهل والفوضى، ثم رأيناها تتيقظ فجأةً، وقد رأت في تاريخها ما يوقظها، وفي سير الزمن ما يهددها – هذا الجمل الذي كان يَجْترّ المظالم صابراً في صحرائه تحرك، وثار .... وهذا الأسد الذي كان يتنزَّى خلف قضبانه حطَّم الحديد! وما كانت اليقظه سوى نور يمر على عيون الشباب فلا تستطيع أن تتجاهله، وكل المروءة والحياة في الشباب! في الزوايا المظلمة المرعبة الصامتة لا تسمع فيها إلا جرجرة القيود، وانين المكبّلين بها، ولا يستقر فيها إلا الاستسلام، كانت اصوات خفيفة، لكنها جريئة، وهمسات عبادة وصلاة تتصاعد لهذا الفجر الذي يهمّ بالسطوع؟

يقظة القومية العربية التي نامت
إنه في الحرية، ويقظة القومية العربية التي نامت - اجيالاً واجيالاً – ذابلة خاملة! حتى قيل: إن العربية قد اندثرت، والعرب قاموا بنصيبهم في التاريخ وانتهوا كما انتهى سواهم من الامم. ولكن - الحياة العريقة – في الدماء العريقة قد تتخدّر، ولكنها لا تموت، وقد تسكن سكون الموت لتثور على الموت؟
وأول مظهر لهذه الحياة والثورة يتجلّى في الشباب العاصف الذي يأبى الاستكانه والخزي، ولا يقيس الحياة الا بمقياس الكرامة، على قول المتنبي:
فلا عَبَرتْ بي ساعة لا تعزّني
ولا صحبتني مهجة تقبلُ الظلما
تنادى هؤلاء الشباب الى الثورة على القيود، وهم يعلمون خطر ما اقدموا عليه، وإن الموت لأسهل ما يُجازون به، ولكنه – قبل الموت والحياة – هو الشباب.
تكلم هؤلاء الشباب بالقومية العربية، يوم كانت القومية العربية جريمة من الجرائم، أقل ما يقال فيها إنها "الخيانة العظمى".
نعم، إنها خيانة، لانها ثورة على القيود، خيانة لانها تقاوم الاستبداد، خيانة - لكنها خيانة مقدسة – لانها لا تخون الا المستبد الطاغية.

بلاد العرب للعرب
هؤلاء الشباب – وفيهم المثقف والمعلم والاديب – ما كان ذنبهم الا ان قالوا: "بلاد العرب للعرب" لقد اجرم هؤلاء – في عرف المستبد – وخانوا قضيته فليساقوا الى الموت سوْق النعاج الى جزَّارها. تلك هي القافلة الاولى التي استشهدت من اجل الحرية، بل عاشت من اجل الحرية. وكم حياة هي الموت ذاته، وكم ميتة هي الحياة او ما هو اسمى من الحياة! ولم تصل الامم – ولن تصل – الى حرياتها الا بهذه القوافل الحية!
هي الأعواد تقام لهم كما تقام للمجرمين. وما هي – في الحقيقة – الا المصابيح العالية التي تضيء لشعوبها الطريق السوي الى الاستقلال بين ظلمات - من الظلم والجهل – بعضها متراكم فوق بعض. وتأبى ميته هؤلاء الا ان تكون ميته بطوله – وما كان الموت ليخيف اصحاب العقيدة – وكيف يخيف الموت قافلة منها الفتى الذي يردد:
- إن الدول لا تبنى على غير الجماجم، وان جماجمنا ستكون اساساً لاستقلال بلادنا! ومنها هذا الفتى الأخير الذي جاء دور إعدامه وكان الفجر أخذ يمِدّ نوره الشاحب على اشباح يتأرجحون في الهواء، فكانوا قبل لحظه بجانبه احياء يتكلمون، فيسرع الى منصة الموت وهو يهتف هتفته الاخيرة:
- مرحباً بأرجوحة الزمن! مرحباً بأرجوحة الابطال! مرحباً بالعَمَدْ التي تسند اليها الامم استقلالها، مرحباً بالموت في سبيل الوطن الحر! اجل، مرحباً بأراجيح البطولة!

وماذا كان بعدها؟
لقد كان البناء العربي الذي نهض على الجماجم، وما كان لهذا البناء ان ينهض إلا على الجماجم . ولكن ليت جهاد الابطال ينتهي! لقد ظنوا اننا نبدل محتلاً بمحتل، ومستعمراً راحلاً بمستعمر مقبل.
ولنعقب القافلة الاولى قوافل وقوافل! لان الرسالة لم تنته، والغاية لم تتحقق والامّه الحية هي من تجد رجالها كلهم مستعدين للاستشهاد في سبيلها قبل ان يروها شهيدة. ومن قال: إن الشهادة تموت في الامة الحية؟ لان الامّة التي – لا شهداء لها – هي التي تكون شهيدة ضعفهم وجبنهم.
اجل، ان الرسالة لم تنته، والغاية لم تتحقق، لأننا لا نزال في بدء الرسالة، وفي مطلع الطريق. هناك انواع كثيرة للاستعمار او هناك ضروب كثيرة للبطولة والاستشهاد، وهناك علل كثيرة تنتظر منا ان نعلن عليها الكفاح.
قد تكون البطولة – للحرية - بطولة مقدسة، تتسم بروح الإيثار والتضحية بالنفس. ولكن البطولة – في الميادين الاخرى، قد تكون عندي اجل قدراً. ومن قال: ان ابطال العقيدة والاصلاح بتهديم الفاسد، وبناء الجديد لا يساوون ابطال الحرية؟
هذه البطولة لم تستيقظ عندنا بعد، وهؤلاء الأبطال لا نزال ننتظرهم.

الطريق للبطل المنتظر
وسوف يأتون، لان يومهم آتٍ لا ريب فيه. ومن كان في شك من ذلك فليتلمس هذا الاضطراب في المجتمع، وهذا التململ عند رجال الفكر. وما كان الاضطراب والتململ الا طريقين يفتحان "الطريق" للبطل المنتظر!
لم تكن الحرية وحدها بالمقيدة المضطهدة، فهناك الفكر المقيد، والمجتمع الراسف في قيود التقاليد، والافاق المسدودة بظلمات الجهل .... كل هذه تسمع شكواها وأنينها، وتنتظر من يفكَّ قيودها. وما كانت الحرية لتقاس بحرية الجسد، إذا لم تكن شاملة للعقل والروح.
يا أبطال الفكر الصريح متى تأتون؟ ويا أبطال الثورة الفكرية والاجتماعية متى تهتفون؟ ويا أبطال الاصلاح الذي يقاومه الجور في كل مكان متى صيحتكم؟ ويا أبطال الجرأة والواقع متى ثورتكم؟ إننا جعلنا يوم شهادة أبطال الحرية عيداً. ولكن الشهداء كثيرون، نراهم حيث التفتنا، ولكنهم ليست لهم ذكرى ولا عيد.

لا .... لا .... لا تترجلوا...
الواقع ان – هناك – شهداء كثيرون نراهم ولا نراهم – لانهم يشنقون على غير أعواد، ويموتون بدون مشانق، فماذا عملنا لاستنقاذ هؤلاء الشهداء شهداء الفقر والجهل والمرض! هؤلاء الشهداء الذين يموتون ضحية إهمالنا، بدون غاية ولا رسالة؟ لقد استشهد أبطال كرام جريئون "من أجل حريتنا" فأين الأبطال الذين ينزعون الى تحرير أفكارنا، ونفوسنا، ومجتمعنا؟
يا شهداء المستقبل آن لكم أن تركبوا او يا شهداء الماضي ويا أبطاله آن لكم أن تترجلوا. ولكن لا .... لا .... لا تترجلوا! إذا ترجلتم عن اعوادكم فاركبوها هذا اليوم لتذكرونا بان البطولة إذا فاتت الاحياء فلنبحت عنها عند الشهداء! لان فيكم – من الحياة – ما بخلت به الحياة على الأحياء.

مقالات متعلقة