الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 03:01

مهمتنا الحضارية : بقلم - عودة بشارات

كل العرب-الناصرة
نُشر: 25/11/09 15:31,  حُتلن: 07:20

* عودة بشارات :مهمتنا الحضارية
-1-
هنالك حلقة في السلسلة، إذا رفعناها رفعنا السلسلة كلها؛ هذا هو امتحاننا الكبير في مواجهة ظاهرة تردي الوضع التعليمي في البلاد، وبشكل خاص بين الجماهير العربية. ولدى الشروع في هذه المتاهة، وحتى نعرف فيها رأسنا من رجلينا، علينا تحديد الأمر الجوهري في المعضلة الكأداء هذه، وبالتالي تحديد تلك الحلقة السحرية في هذه السلسلة المترامية الأطراف.
لأنه.. يمكننا وضع مسببات وعوامل من هنا وحتى إشعار آخر لتفسير الوضع، من شح الميزانيات، المضامين، المباني، المختبرات والخلفية الاجتماعية الاقتصادية للطالب.. ولكن الحلقة الأساسية كانت، وستبقى، المعلم. ليس الطالب.. بل المعلم. ليس المبنى.. بل المعلم. ليست الميزانيات.. بل المعلم.
تتطلب الحالة الإعلان بوضوح أنه بدون إعادة الاعتبار للمعلم، لا يمكن لنا أن نحل هذه المعضلة. التعليم، في بدء البدء، كان معلم وطالب. نقطة. الطباشير، أقلام التوش، الورق، الكتب، جاءت فيما بعد. هي أشياء مهمة، ولكنها ليست العنصر الأول في التعليم. وعندما كان أرسطو يعلم لم تكن الطباشير قد عُرفت بعد في اليونان القديمة، وهناك من علّم في الكهوف وخُلدت تعاليمه على مر العصور.
-2-
ونقول إعادة اعتبار، لأن هذا العنصر، "الاعتبار"، كان متوفرًا لدينا وبوفرة في السابق. مع تفاقم جنون المجتمع ذهب هذا "الاعتبار" واندثر. عندما كان الأوائل، حتى وقت قريب، يقولون للمعلم، "لك اللحمات ولنا العظمات"، فلم تكن السّادية هي التي أملت عليهم هذا "التصريح"، بل هي الثقة المطلقة بأنهم يودِعون أغلى ما عندهم لدى المعلم، وبأن هذه الوديعة ستحظى بأفضل ما يكون من رعاية. هذا هو أساس العقد الاجتماعي الذي أُبرم بين الوالد/ة والمعلم/ة. بين المجتمع والمعلم.
البند الأساسي في العقد، كما فهمناه، هو كالتالي: "نحن نثق أنك ستصون ابننا بتعليمه وتثقيفه وتربيته، مثلنا وربما أكثر منا، نحن الوالدين". فأين ذهب هذا العقد الذهبي، اليوم، حين يتمرس والد مكفهر الوجه في المدرسة يريد أن يفترس المدير والمعلمين و.. البواب أيضًا؟
سقط العقد الاجتماعي بمفهومة الواسع والجميل، وارتفع النبوت في وجه المعلم. ومن المعروف أنه حتى عامل في مصنع طوب لا يستطيع أن يعمل، ناهيك عن الإبداع، وهو خائف. العالم في المختبر لا يستطيع أن يبدع وهو خائف. وكذلك هو الحال مع المعلم، فكيف سيكون باستطاعته أن يعمل وأن يثقف وأن ينشئ أجيالا، كما يطيب لنا إطلاق هذه الشعارات، وهو خائف من الطالب ومن الوالد ومن الوالدة ومن زعران الحمولة، ومن الشرطة ومن الصحافة، لأنه أبدى ملاحظة لطالب؟
معلم كل همه أن ينتهي الدرس بسلام، وأن ينتهي الدوام بسلام، وأن تنتهي الرحلة بسلام، وأن ينهي حياته المهنية بسلام.. لا يمكن أن يقدم لطلابه. وهو ليس المعلم الذي عرفناه، فيما ما مضى من زمن، حينما أشعَّ مهابة، ولعدة كيلومترات، على كل من حوله. بينما اليوم!! في مدرسة ما.. اعتدى أحد الطلاب على معلم. لم تبق وفود في البلدة، ومن البلدات المجاورة، إلا وحضرت من أجل إرجاع الطالب للمدرسة: "حرام؟"، "وين بدو يروح؟"، "بلاش تخرب مستقبلو؟". فيما بعد، قال لي هذا المعلم، لو أن العملية عكسية لكنت قابعًا الآن في السجن الآن، ولتم التعامل معي كآكلي لحوم البشر، ولنُشر عني في أمهات الصحف والمواقع الالكترونية.
لا يستطيع المعلم أن يعلُم بدون أن يمنحه الأهل "كارت بلانش"، صك على بياض، لإعلان الثقة به؛ صك لا يتيح له أن يكون ساديًا، فللسادي مكان آخر، بل صك مفتوح، يقول للمعلم: "نحن نعلم أن هذه المهمة شاقة وحساسة، لأن أبناءنا هم مادتها الأساسية. وأبناؤنا، وخاصة، من هم في الإعدادية والثانوية، هم في جيل متوثب وثائر، جيل صعب، ونحن نريد لك أن تمنحهم الحب والعناية. وهذا يعني، فيما يعنيه أيضًا، أن تجزرهم، أحيانًا، وأنه مسموح لك، أن تغضب عليهم، لأنه فقط، من يغار على مصلحة طلابه يغضب منهم، وربما أن تفلت منك بضع كلمات". وينص الصك، أيضًا: "لا بأس، فنحن نعرف ماذا تعني تربية ولد واحد فقط، فخلال العطل الدراسية نخرج عن طورنا بسبب "مقارعة" ولدين، متفرغين لنا، بكل طلباتهم ونزقهم و"قرفهم" منا، (وشعورنا المتبادل معهم)، فكيف سيكون حالك مع أربعين طالبًا متفرغين، لمقارعتك والحط من قيمتك؟!"
وفي هذا الصك، نقول أن شرطنا الأساسي هو أن تحب مهنتك، والمعلم الذي لا يحب مهنة التعليم، ليتنحى الآن. عليه أن يفتش الآن، الآن الآن، عن مهنة أخرى. من لا يحب الطلاب، من لا يحب نزقهم، من لا يحب جنونهم وبراءتهم وحتى "بياختهم"، لا مكان له في هذا الكار. لا مكان لمعلم لا يحب مهنته. من المفضل لكل منا أن يعمل في المهنة التي يحبها، ولكن بإمكان معظمنا أن يعمل في مهن لا يحبها. أما مهنة التعليم فهي حالة مختلفة جدًا وخاصة جدًا، متعبة جدًا وممتعة جدًا، فقط.. للملائمين لها.
لا حاجة للمعلم أن يصطنع الابتسامة. لا حاجة لأن يمرن لسانه على كلمات حلوة. مهما قلتم من كلمات جميلة حول حبكم لطلابكم، فالطالب يملك الباروميتر الأدق لمعرفة كنه المعلم وموقفه منه ومن زملائه الطلاب. قد تكون "كشرة" المعلم تملأ وجهه. قد يكون صراخه عاليًا، ولكن الطالب يعرف، في أعماق أعماقه، أن هذا المعلم يكن له الحب والاهتمام. وقد يكون عكس ذلك، حين لا تفارق الابتسامة وجه المعلم، ولكن الطالب يشعر، في أعماق أعماقه، "إنو في إشي مش مزبوط".
-3-
الصفة الأساسية للمعلم لم تتغير على مر العصور.
فقط في السنوات الثلاثين، أو الأربعين، الأخيرة، حين أصبحت مهنة التعليم جماهيرية، وأصبح مجال التعليم هو مكان عمل أساسي في المجتمع، حدث خلل ما. ليس لدينا فقط بل في كل المجتمعات. عندما كان معلم واحد في كل القرية، كانت مكانة المعلم محفوظة، كما هو الأمر بالنسبة لمكانة الطبيب الواحد والمحامي الواحد والمهندس الواحد والصحفي الواحد.
عندما أصبحت مهنة المعلم مهنة مثل كل مهنة، وأصبح لدينا آلاف المعلمين، وعندما أصبح لدينا على كل وظيفة معلم مئة مرشح ومرشحة، حدث هذا الخلل: مهنة ذات مضمون بالغ الخطورة، من تثقيف أجيال لتحمل فكر وتراث السلف لمواصلة المسيرة، تحولت إلى مهنة عادية و.. اشتغلت الواسطة، وقُسمت الغنائم.
وبينما.. في المجتمعات الأكثر تقدمًا في العالم، حُفظت مكانة المعلم، بالرغم من الازدياد الهائل في عدد المعلمين، لأن المجتمع أدرك الدور المركزي للمعلم، سقطنا نحن في الامتحان، لأننا لم نلائم المعلم للدور الجديد الذي يجب أن يلعبه في العصر الجديد. والعصر الجديد مدهش من حيث الإمكانيات التي يضعها أمام الطالب، وبالتالي فهو يتطلب من المعلم فهمًا وقدرات أكبر بكثير وأوسع بكثير مما كان عليه الأمر في السابق.
واليوم، بالرغم من كل التذمر وبرغم الصورة السوداوية، يمكن الاعتزاز بأن أبناءنا أكثر حرية واستقلالاً وكرامتهم محفوظة أكثر. جيد أن الطالب اليوم لا يخاف من "عصا" المعلم. الوضع الجديد من المفروض أن يكون جنة للتعليم، لمنح الثقافة وتشجيع القدرة على التفكير والإبداع. وجيد أن المعلم توقف عن كونه نزيل برج عاجي.
المعلم اليوم هو من دم ولحم، ومن مصلحة المعلم أن يتم التوجه له، على أساس أنه من دم ولحم. وهذا "الاكتشاف" الجديد للمعلم أنه من "لحم ودم" يتطلب معلمين من نوع خاص جدًا، معلمين قادرين، في أجواء التكنولوجيا والتقدم العلمي، على إطلاق طاقات الطالب؛ قادرين على جعل الطالب شريكًا فعالا في عملية تثقيفه هو، وهذا هو التحدي الأكبر أمام المعلم.
وبالضبط في هذا العصر نحن بحاجة للعودة إلى العقد الاجتماعي القديم، عقد "اللحمات والعظمات"، وأن نلائمه لشروط العصر. فبالإضافة إلى المعلم الذي يحب مهنته، نريده معلمًا قائدًا، نريد معلمًا مبدعًا، نريد معلمًا يعرف "دوا" كل طالب، بشكل شخصي. أن يعرف كيف يحفز هذا الطالب على إطلاق طاقاته الجميلة، وفي كل طالب توجد طاقة جميلة، ووظيفة جهاز التعليم، المعلم والمدير والمستشار، اكتشافها وتجسيدها.
واليوم يوجد شيء جديد اسمه تعدد المهارات. قد يكون الطالب "تيس" في الحساب ولكنه مبدع في الرسم؛ "تيس" في اللغات، ومبدع في الموسيقى. هذه الاكتشافات الخارقة، يمكن أن تتم، بالإضافة إلى ظروف موضوعية عديدة، بالأساس، بوجود معلم مناسب، لأن الفرق بين أفضل مدرسة وأسوأ مدرسة هو مدير. الفرق بين صف صاخب وصف متحفز للمعرفة هو معلم. الفرق بين صف "تيوس" وصف مبدعين هو معلم.
وهنا نعود للمجتمع الذي ينتج هؤلاء المعلمين، والذي يشغّل هؤلاء المعلمين، عليه أن يجعل من مهنة التعليم المهنة الأهم في المجتمع، والمهنة الأهم التي تستقطب أفضل الطاقات. إنها مهنة ليست كباقي المهن.. كيف نفعل ذلك؟ هذا هو، كما يُقال، سؤال المليون دولار.
-4-
أكثر من 30% من مجتمعنا، هم في أعمار حتى 17 عامًا، يذهبون للدراسة الابتدائية والثانوية.
حوالي 350،000 طفل وفتى وفتاة، يستيقظون باكرًا، تُحضر لهم الزواويد، تُكوى لهم قمصان وبناطلين، تسرح شعورهم، ونراقبهم باعتزاز يحملون الحقائب في طريقهم للمدرسة. ومن الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية، وربما الثالثة، بعد الظهر يمكثون في مساحات مغلقة بهدف واحد ووحيد هو التعلم. 350،000 طفل وشاب وصبية، يقضون أفضل ساعاتهم وأفضل فترة في حياتهم، بين جدران المدارس.
وأغلبية هؤلاء بعد 10-15 سنة سيتسلمون أهم الوظائف في المجتمع؛ في الاقتصاد والتجارة والهندسة والطب والصناعة والسياسة والأدب والفن والموسيقى. ويمكننا اليوم تلمس ملامح وجهنا المستقبلي.. في غرفة تدريس لا يعرف المعلم أن يمرر فيها درسًا واحدًا أو فعالية واحدة، على خير.. في غرفة تدريس كهذه يمكن أن نتخيل أي مستقبل ينتظرنا.
ولذلك فالسؤال المطروح بصدد إعادة الاعتبار للمعلم والتعليم؟ ليس إنه فقط السؤال المليون دولار، إنه سؤال لا يقدر بثمن لأنه يتعلق بمستقبلنا. ونجاحنا في الإجابة على هذا السؤال، وتطبيق هذه الإجابة على أرض الواقع هو بوليصة تأمين المستقبل.
سيكون لنا مستقبل رائع عندما نُكسب أطفالنا الثقة بالنفس بدل المرارة السوداء؛ العمل بدل التذمر؛ التصدي للمسؤولية بدل اتهام الآخرين؛ الإبداع بدل الانغلاق؛ التسامح بدل التعصب؛ الانضباط بدل الهياج المدمر؛ المنطق بدل الدماغوغية، الحس الجمالي بدل النزوع للعنف، الجدية الهادئة بدل الاندلاق، الاحترام بدل اللإزدراء.. باختصار أن نُكسبهم مواصفات إنسان القرن الواحد العشرين. هذه هي مهمتنا الحضارية. كلمات كبيرة! ربما! لكن المهمة كبيرة.

مقالات متعلقة