الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 21:02

وما زلنا في عصر الاستحمار...بقلم: النائب مسعود غنايم

كل العرب
نُشر: 19/09/09 12:30,  حُتلن: 13:56

* الاستحمار فهو حالة خطيرة جدا من حالات الاستعمار. فهو تعبير عن استعمار الإنسان والسيطرة على عقليته وأسلوب تفكيره
* حالة الاستحمار يمكن أن تنتهي أو تتلاشى إذا أعدنا بناء العقلية المسلمة والعقلية العربية وفقا للمشروع الحضاري الإسلامي الذي يفجّر طاقات الإبداع الكامنة في الإنسان ويجعله منتجا ومثمرا لتراب بلاده

هناك بعض المصطلحات لها حقوق طبع لبعض المفكرين الذين لا ينبغي تجاهلهم أو المرور على ذكرهم مر الكرام. فمصطلح "الاستحمار" هو تعبير للمفكر الإيراني المشهور دكتور علي شريعتي صاحب كتاب "العودة إلى الذات". ولعل هذا المصطلح سيلتقي مع مصطلح آخر للمفكر الجزائري مالك بن نبي، وهو مصطلح "القابلية للاستعمار". فكلا المصطلحين يصفان أو يحاولان وصف حالة داخلية تعيشها الذات الإسلامية أو العربية. هذه الحالة تجعل من الإنسان المسلم عرضة للغزو الخارجي، ليس لأن الخارجي هو الأقوى فقط، بل لأن الذات والعقلية المسلمة- إن صح التعبير- تعاني من شروخ داخلية تمهد الطريق للاستعمار الخارجي وتكون على استعداد دائم للغزو والاحتلال.

الاستعمار كاصطلاح يُفهم منه البناء والتعمير. ولكنه في الحقيقة استخراب لأراضي الآخرين ولثرواتهم، من أجل إعمار بنيان القوي المسيطر. وقد تعددت دوافع الاستعمار عبر التاريخ، ولكن أخطر أنواع الاستعمار هو استعمار العصور الحديثة: القرن التاسع عشر، والقرن العشرين. وقد جعله لينين أعلى مراحل الرأسمالية، لأن الاستعمار انعكاس تلقائي للنظام الرأسمالي الذي يبحث عن الأسواق لبضاعته، وعن المواد الخام لمصانعه. وقد عانت دول العالم الثالث من هذا النوع من الاستعمار الذي جعلها خرابا بعد أن امتصت الدول الكبرى خيراتها وثرواتها تحت شعار رسالة الرجل الأبيض الحضارية التي تسعى لنشر المدنية بين الشعوب البدائية المتأخرة.

أما الاستحمار فهو حالة خطيرة جدا من حالات الاستعمار. فهو تعبير عن استعمار الإنسان والسيطرة على عقليته وأسلوب تفكيره. وهذه العملية تؤدي إلى تسخيره- دون أن يدري أحيانا- لخدمة مصالح الآخرين الكبرى، حتى لو عاد هذا التسخير عليه وعلى مجتمعه بالضرر. فهو في أحيان كثيرة لا يدري أنه مستحمر. والمستحمر- عزيزي القارئ- يقوم بدوره بكل متعة ورضى عن النفس، فهو قد تقبّل كونه حمالا لأفكار الآخرين ولأمتعتهم الفكرية المختلفة، وهو لا يستطيع أن يتقن دور العصامي المستقل في فكره وكيانه، ويرى نفسه فقط عبر تسخير الآخرين لقدراته الحمارية على الحمل.

أصحاب هذه العقلية والنفسية كثر هذه الأيام، وخاصة بعد عمليات التجميل التقدمية المختلفة التي يمر بها عالم المستحمَرين. وقد جعلتنا مثل هذه العقليات مجرد زبائن مستهلكين لبضائع الآخرين، أو تلاميذ دائمين نعاني من تلمذة مزمنة لا فكاك منها لمعلم الكتّاب الجديد صاحب اللكنة الغربية. ورحم الله مفكرنا مالك بن نبي الذي قال في أحد كتبه: "لقد ذهب اليابانيون والصينيون إلى الغرب وتعلموا، لا ليبقوا تلاميذ، بل ليصبحوا أساتذة، أما نحن فنتعلم من الغرب لنصبح مجرد مستهلكين لمواد حضارته، لهذا فنحن لا ننتج حضارة بل نكدّس حضارة الآخرين التي استوردناها".

اليوم ونحن نعيش عصر ثورة المعلومات والإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال تعددت سبل الاستحمار، وأصبحنا بحاجة ماسة لبناء درع واق يحمي الذات من الاستعمار، ويمنع في نفس الوقت الانغلاق والانكفاء على الذات. وقد يصبح الأمر واقعيا إذا استوعبنا درس العالِم أحمد زويل والعالم فاروق الباز وغيرهما من الأدمغة التي لم تجد لها مكانا في وطنها فاضطرت لخدمة الآخرين.

إن حالة الاستحمار يمكن أن تنتهي أو تتلاشى إذا أعدنا بناء العقلية المسلمة والعقلية العربية وفقا للمشروع الحضاري الإسلامي الذي يفجّر طاقات الإبداع الكامنة في الإنسان ويجعله منتجا ومثمرا لتراب بلاده التي احتضنته ورعت إبداعه ووفرت له مناخ الحرية الضروري لأفكاره الخلاقة.

العالم الغربي اليوم يسعى لضمان بقاء عصر القطب الواحد. وقد كتب عن هذا النظام الرئيس السابق نكسون في كتابه "أمريكا والفرصة التاريخية"، ينصح فيه اغتنام الفرصة لتثبيت السيطرة الأمريكية والإفلات من حكم التاريخ على الامبراطوريات بالسقوط.

ويأتي مشروع العولمة لضمان الهيمنة الأمريكية وتكريسها كأمر عالمي واقع لا تستطيع أي دولة الإفلات منه. بل الأخطر والجديد هو أن أصحاب طرح العولمة يقولون: إننا نعيش في عصر ثورة المعلومات الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، لذلك لا أهمية لأي حواجز قومية أو وطنية أو حضارية، لأن كل الناس أصبحوا مواطني العالم الواحد الذي لا تَميُّزَ فيه ولا خصوصية لأي شعب أو أمة، والأجيال الشابة في كل قارات العالم تواجه نفس المؤثرات، ولها نفس لمتاعب أو الآمال، والجميع يبحث عن المال ولا وقت لحديث الأيدلوجيات أو النظريات، وعلى جميع دول العالم أن تكون مرتبطة بالاقتصاد ورأس المال الغربي الأمريكي عن طريق منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي أو المعاهدات التجارية المختلفة التي سوف تحل مكان التحالفات العسكرية والأيديولوجية.

قد يكون من الطبيعي محاولة أمريكا والغرب السيطرة على عقول الآخرين بعد السيطرة على جيوبهم، وأن يحاول أصحاب الفكر المسيطر غزو أصحاب الأفكار الأخرى، ولكن من الطبيعي أيضا أن يدافع الإنسان عن ذاته وهويته وأن لا يلغي نفسه أمام الآخر القوي، وإن كان يملك القوة المادية. فالمغول من قبل كانت لديهم السيطرة على العالم لكنهم هُزموا فكريا وحضاريا.

إن الإسلام صاحب التوجه العالمي يستطيع أن يشكل مصفاة وغربالا يُدخل المفيد والنافع، ويُخرج المضر المؤذي، عبر فتحاته الحضارية التي تتيح حوارا حضاريا إنسانيا يثري الأفكار ويبيح تلاقحها ويمنع استعمار الإنسان باسم المواطنة العالمية في ربوع العم سام.

أما إذا بقي الوضع كما هو عليه اليوم فسنبقى مستحمَرين، نتنافس على المرابط الأولى في قوافل المستحمَرين العالمية.

مقالات متعلقة