الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 17:02

رسالة إلى أمي (2)- ابنُكِ /عمر سعدي

كل العرب
نُشر: 20/03/09 16:22

أمـي الغـالية؛ من بين الكلماتِ أكتُبُ والرؤى تحاصِرُني وتَمنحُني الأمل كما تفعلينَ دائماً، تحيـةً مملوءَةً بالفَرحِ الخـالص وبعد؛
أنا بِخير كُلُّ مَن حَـولي بألفِ خَير، الأسماءُ عِندَنا متشابهة تماماً والأطلالُ لا زالَت بخير، كل شيءٍ في هذا المكانِ المشغولِ على مرِّ الأزمنة متشابه ولكنهُ لا يشبهكِ أبداً يا أمي فأنتِ التواتُر  في الحديثِ ووردتي التي أزرعها في شراييني وذاكرتي وأنتِ ابتسامَتي الرائعَة، آهِ يا أمي كَمِ اشتقتُ إليـكِ وكَم أحنُّ إلى الماضي الذي ضاع مِن أمامِ ساحةِ بيتنا الصغير ، براءتي التي تناثَرَت هكذا في غبار العَدم وكَم أشتهي الذكريات التي سَرقت مِنا مُستقبلَنا وبسمتنا الحقيقية ، آهِ يا أمي كَم أشتاقُ إليها ... كثيراً.
أنا بخير وتلكَ الشُرفةُ المدورةُ الزوايا لا زالت تُطِلُّ على السحُب، وأشيائي المتراكِمة لا تملُّ مِن المكانِ ، أشعُرُ بطاقةٍ أكبَر للفوضى فأعتصِرُ مُخيِّلتي تدريجياً لأعودَ طِفلاً يجلِسُ عِندَ البابِ طويلاً منتظراً هديَّتَهُ لكي يخفيها عن الجميع ولكنَّ الهديةَ الأجمَل كانت تلك الابتسامة الطويلة التي تنادي بصمتٍ كي تحتضنني طويلاً.
أمي الغـالية ، أشتاقُ للطفولة ، أشتاقُ إلى براءتنا المُشرقَة وأوتارِ قيثارتِنا المتشنجة التي كانت تعزِفُ نفسَ اللحنِ دوماً وأشتاقُ إلى كَرمَةٍ أظَلَّتنا في صيفٍ شديدِ الحرّ وداليةٍ أخذنا صوراً لأنفسنا تَحتها واجتمعنا فرحينَ بأيامنا المُدللة، آهِ كَم اشتقتُ لَها.
أُحاورُ نَفسي فتصفعُني ذاكرتي لأنَّكِ معي دائماً، لا أحاوِلُ أن أتذكَّر شيئاً بتلكَ الطريقِ سوى خشخشاتِ أسئلتِكِ العابرة وأمانيَّ العابِرة وزائِرةٍ أتَتْ مِن حيِّنا المجهولِ من بينِ الفصول، أحنِّ إلى أرجوحةٍ مربوطةٍ بينَ جفنيكِ ونظراتِكِ الساحِرة .
آهِ يا أماهُ كَم أشتاقُ للنفسِ المعششِ بيننا في غُرفَةٍ واحِدة، أتذكَّرُ أننا تُهنا بينَ الحكاياتِ التي كُنتِ ترويها لنا ونحنُ نفكِّرُ ما سيحدثُ للجميلَةِ، إلى اليومِ لا زِلتُ أفكِّرُ كيفَ تَبدو عروسَةُ ذِكرياتي الباردة وأنا عَلى مَهلي أحاولُ جرجرَةَ ذكرياتي معي أينما ذهبتُ فلكِ يا أماهُ أينما كُنتِ العفو والعافية.
لِماذا كَبرتُ أنا هكذا! ربما لأتذكَّر تلك اللحظات الرائعة التي حَمَلتها على ظَهري فأوجعني واقعي الغريب ، أهي صدفة أن نُفكِّر في ذِكرياتنا الراحلة أم أنَّ شيئا ما يحدثُ فينا ... يُعيدنا ببطء إلى حِضنِكِ كي نَلهو بألعابِنا التي كسَّرها العُمر مرَّاتٍ ومرِّاتٍ وفي تلك الممراتِ سنعبُرُ كلُّنا كثيراً.
أمي الغالية/ أفتقِدُ ضِحكَتي الحقيقية التي كُانَت تَسبقني حينَ أشعُرُ بالفرَح وأفتقِدُ الدمعَة التي كانَت تلحقني حينَ أشعرُ بالحُزنِ والغموضُ الذي كانَ يحيطُني عِندما أحتاجُ إلى شيء ما فأحظى فيهِ بمكرٍ بريء، آهِ يا أمي كَم أشتاقُ إلى الحبِّ الحقيقيِّ الخالي من الأطماع والأصدِقاء القُدامى.
أحبُّكِ يا أمي وهذا الحبُّ الحقيقي الذي تبقى لي في هذهِ الدنيا فلا العِشقُ يعني لي شيئاً ولا الذكرياتُ السودُ تقدِرُ أن تُبدد شيئاً ربما مضى... وأنا هُنا في مكانٍ بينَ ألوانِ الحياةِ متكئاً على عُكَّازةٍ مَكسورةٍ تحاولُ أن تَنتَقِمَ مني بتحويلي مِن طِفلٍ يملكُ الدنيا في قلبِهِ إلى رجلٍ لا يملكُ قلباً في دُنياه.
آهِ كَم تَمنَّيتُ أن أبقى صغيراً ولكنَّ الأماني مجرَّدَ ثرثرةٍ ليسَ أكثَر، أحزِمُ أمتعَتي للذِكرياتِ فأولد مِن جَديد، حيثُ كانَتِ الدُنيا مَسرحَنا الذي كُنا نُمثِّلُ فيهِ أحلى الأدوار وفي أكثر الأماكِنِ جماليَّةً وجاذبية وسحراً وحيثُ إنا الآنَ/ كُل الأشياء سَواء ، الواقِعُ ليسَ سوى مركبَةٍ تمشي فوقَ السكَّةِ لا تَعرفُ غيرَ طريقٍ مُختصَرة.
كيفَ حالُ البيت يا أمي ، أما زالت نَوافِذهُ، ستائرهُ تفكِّرُ بـي ؟! وما أخبارُ جارَتِنا، أما عَادت تُرافقكِ كما كانَت تُرافقُنا، هَل زادَت محبَّتهم كما بالأمسِ كَانَ لَنا وما أخبارُ الكرمَةِ السَوداءَ في ركنٍ تُظلِّلُنا أما عادتْ العصافيرُ إلى مواطننا ؟!
نسيتُ كُلَّ شيء ولا زِلتُ أذكُرُ وجهَكِ الضاحِكِ دوماً رغمَ كل التضحية وسوء الحال ورغمَ خصامِنا ، ضحكتِ ضحكةً ملء هذا الكونِ وفتحتِ النوافِذَ كُلها وكأنَّكِ تفتحينَ نوافذ واسعةً إلى قلبي الذي لا يَعرفُ شيئاً سوى التذكُّر دائماً.
"هَل قُلتُ بأني أحبُّكِ أكثَر من أيِّ شيء"؟! – لَستُ أدري فأنتِ لي كُل شيء، تكفيني ابتسامة هكذا تجئُ من بينِ عينيكِ أو نظرةٌ أخرى تُوبِّخُني إذا أخطأت- وهَل قُلتُ بأنَّ المسافاتِ طالَت وأنَّ حياتي لأجلكِ تَزدادُ قيمتها المعنوية وهَل قُلتُ بأني سأعود!!
لا تَحزَني فهذا الزمانُ كذلكَ يمضي، بنشوتِهِ، برونقِهِ/ بحلاوتِهِ ، بتعاسَتِه ويدعونا إلى فِنجانِ قَهوَتِهِ ويركلنا إذا شاء في ريحانِ زَهرتِهِ ، هي الأيامُ تَمضي بانعكاسِ الفصولِ بها فلا تنسي بأن طلاسِم الأيامِ تَغمرني فغني لي أغنيةً كُنتُ أسمعها قَديماً ، أغنيةً ملآنَةً بالأمَل تُعيدُ رسمَ ذكرياتي على مَهلِها فهذا الحنينُ الذي يُوبِّخُ آماليَ الآتية يعيدُ إليَّ صبايَ بتفاصيلها وأجمَلَ النغماتِ تَسبقني إليّ.
أمي؛ الحُروفُ تقلَّصَت والأيامُ تمددت فوقَ عرشِ اللازوردِ الأخير أمَّا أنا فكتبتُ اسمكِ في قلبي وأنا أسمعُ دعوتَكِ لي بالسلامة أملكُ كل شيء ويتغير كل شيء أيضاً- تُصبحُ الظلماتُ صباحاً شديد الوضوح والصراخُ عليَّ همساً ويُصبِحُ الواقعُ أرقُّ بكثير وأزدادُ وسامةً ثمَّ أصغرُ مجدداً .
أحتاجُ إليكِ كثيراً فهذهِ الأيامُ تَسحَبُ مني شعوري الذي يتناثرُ شيئا فشيئاً وحنيني الذي يختفي بينَ طياتِ الكُتُب وحروفي التي لم تَعُد تفهَمُ بعضها وأحتاجُ لأغنيةٍ غنَّيتها لي ذاتَ يومٍ عندما كُنتُ وحـيداً أحفُرُ في تربَةِ العُمرِ حتى أزرعَ نفسي لأورِقَ عُمراً يُغيِّر كلَّ الجِهاتِ ويختصِر الفصولَ ويمضي سريعاً
أحبُّكِ أمي فصلي لأجلي ... كثيراً

مقالات متعلقة