الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 14:01

عندما تصبح الجامعات منصات للصور والألقاب

الدكتور نسيم الخوري

الدكتور نسيم الخوري
نُشر: 24/07/22 10:49

من الصعب جدّاً تقديم صورة واضحة للتعليم العالي وال"أكاديميا" في لبنان ومدى فهمنا لإقتصاد السوق، ومن الأصعب إذن الإضاءة على مستقبل الكتل الضخمة من الطاقات الشبابية التي صارت خارج الوطن. حتّى ولو كان همّنا الإطلالة على موقع العرب في المجال، أنبّه إلى أنّ معظم الدول العربية تتسابق لإنشاء الجامعات الخاصة التي غالباً ما تأتي فروعاً لجامعات أجنبية تفرضها مقتضيات العولمة. وبالمناسبة، استغرب حزيناً ، بأن الجامعة الأميركية الأعرق في بيروت والمحيط (تأسّست في 3/12/1866) كانت وما زالت المساحة الراسخة الرائدة التي بذرت أساليب النقد الحرّ وأطلقت استقلالية الفكر وصيانة العقل والتفكير بهدف تكوين المعارف وبناء الشخصيات الرائدة بما يتجاوز تجميع الإختصاصات، أعلنت مؤخراً عن انتقالها لتأسيس فروع لها في قبرص بعد الإنهيارات اللبنانية والعجز عن تأمين الأقساط بالدولار، وبالتزامن أعلنت الجامعة اللبنانية أيضاً (تأسست 23 /1/1951 بعد حراك شعبي كبير وهي تضم 90 ألف طالب) الإضراب المفتوح لأن راتب "البروفسور" خريج أرقى الجامعات العالمية فيها تدنّى إلى 173 $ بما لا يكفيه للإنتقال بين الأحرام الجامعية المشتتة بطول لبنان وعرضه وفي مبانٍ ومقرات هزيلة ومهملة. صحيح أن الجامعات والمعاهد العليا الحزبية والطائفية والمذهبية والمناطقية تعتمد في تسيير أمورها على أساتذة الجامعة الوطنية، لكنّ الأصح الإشارة إلى ملاحظة هامة تنذر بدمار التعليم العالي في لبنان:


ما زال التوجه الغربي الراقي يحافظ على الجامعات ذات المستويات الأكاديمية المحترمة فيحصره غالباً في الجامعات الحكومية أو في الخاصة منها الممولة من جمعيات أهلية ولا تتوخى الربح. هذا التأرجح بين الإستثمارين المالي والحضاري في النظرة إلى التعليم العالي هو المؤشّر الأول والخطير في رسم مستقبل الأوطان.


وللتوضيح أروي هنا ببساطة ما كان يحصل معي في العام 1972 طالباً للدكتوراه في السربون 3 باحثاً في مظاهر الحداثة العربية:


كان أستاذي المشرف المستشرق أندريه ميكيل يستقبلني أسبوعياً في منزله متابعاً أبحاثي وموجّهاً قراءاتي بشكل منهجي وصارم . حين أزوره تحضر زوجته، حاملة كوبين فقط من الشاي فوق طبق من القش المغربي. تقدّم واحداً له والآخر لها تنسحب به نحو زاوية الصالون لتتصفّح كتاباً. بقيت غريباً لا أشاركهما الشاي سنوات خمس على هذا المنوال إلى يوم فاجأني فيه أستاذي بموافقته السماح بطباعة الأطروحة المبدئية لتحويلها الى لجنة من كبار الأساتذة لوضع ملاحظاتهم المنهجية عليها وضرورة تعديلها قبل حفل المناقشة.


لم ولن أنسى ذلك اليوم الذي دمغني أكاديمياً، بعدما رأيت الزوجة تدخل علينا حاملة الصينية إياها وفوقها ثلاثة أكواب من الشاي. قدمت احداها لي أوّلاً ثمّ كوباً لزوجها وجلست بكوبها معنا. لفّني الإرتباك والإحمرار والخجل لتغيير عاداتهما في الضيافة، لكنّ أستاذي عالجني ضاحكاً وقال : "أراك مربكاً... لا تستغرب... هي شرف الأكاديميا الذي سترتديه قريباً. منذ هذه اللحظة، لم تعد طالباً. صعدت السلم الأكاديمي وبتّ قاب قوسين من الزمالة. لك الحقّ مشاطرتنا شرب الشاي. تنفّست وغمرني السرور، وبعد مناقشتي الأطروحة اختارني البروفسور ميكيل مساعداً له وكانت الحروب تعصف في لبنان.


أوردت هذه القصة تدليلاً على أطر التعامل الأكاديمي ومنهجياته ومعاييره المنضبطة التي يخضع لها غالباً طلاّب الجامعات الوطنية العريقة ، في حين أذا ما كَشَفتُ زوايا الغطاء عن الكثير من طرائق منح شهادات الماستر والدكتوراه الرائجة لأدهشت القراء بالإنحدارات الأكاديمية والإستسهال. يعتبر الأستاذ المشرف على الأطروحة نفسه مكان الطالب وكأنّ العلامة والدرجة يُمنحان له لا للطالب، بينما في الجامعات البريطانية والكندية مثلاً، لا يحق للأستاذ المشرف مثلاً من الكلام أو الدفاع عن الطالب وحتى من حضوره جلسة المناقشة.


لنعترف أنّ هناك رخاوة أكايمية لبنانية وعربية في منح درجات الممتاز والجيد جداً... بحيث تمتليء صفحات التواصل الإجتماعي ب: د. ودكتور، وبروفسور، وخبير وغيرها من الصفات المرتجلة التي دمّرت المعايير العليا الجامعية في منح الشهادات عبر "جامعات" أو دكاكين لبيع شهادات الدراسات العليا.


يكفيني في مجال النقد ثانياً، الإشارة كمثال الى المناهج المستوردة للجامعة اللبنانية المعروفة بنظام L.M.D (إجازة، ماستر، دكتوراه) وغير الملائمة بل الضارة التي تمّ فرضها واستيرادها اتفاقيات ملغومة مع فرنسا وبالتعاون مع اليونسكو:


بكلمتين : تطبيقاً لهذا النظام، عقد عمداء الكليات اجتماعات مع الاساتذة، وعجزوا فعلاً عن شرح فلسفة هذا النظام المأخوذ من فرنسا التي أخذته بدورها عن أميركا التي توقفت الجامعات فيها عن تطبيقه. كيف ؟ البند الأول لهذا النظام هو توفير مدن جامعية تتقارب كلياتها ليتشارك الأساتذة وطلابهم المتنوعي الإختصاصات في تتبّع المحاضرات والأنشطة والمواد المشتركة، بدلاً من أن يكرّر الأساتذة محاضراتهم متنقلين من محافظة لأخرى وقضاء لأخر ومن فرع لآخر ومن إختصاص لآخر في فروع لبنانية مشتتة جغرافياً وطائفياً وأكاديمياُ مثلاً. كان الهدف حصر الأساتذة والطلاب في مدن جامعية مفتوحة للجميع يحصّلون أرصدتهم المطلوبة بلا قيود بما يضبط المستوى ويوفّر في الميزانيات وحشو المحاسيب والأزلام.


كانت النتيجة: تضخم لوائح التعاقد مع حاملي الليسانس والماستر والمدرّبين للتعليم الجامعي حيث هبط المستوى بعدما خرج كبار الأساتذة إلى التقاعد أو إلى جامعات محترمة خاصة. لقد خرّب هذا النظام الجامعة اللبنانية بفروعها الكثيرة المتباعدة فتحولت الأكاديميا إلى أبنية مشتتة جغرافياً وعلمياً وفكرياً ووظيفياً ومذهبياً ولربّما تتجاوزها بالشكل والمضمون والأداء المدارس التكميلية التي أنشأتها الصناديق الطائفية في الأقضية اللبنانية بما يعني القضاء على الحياة الجامعية في لبنان.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com     

مقالات متعلقة