الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 15:02

الناصرة للمرة الألف وواحد-عناق مواسي

عناق مواسي
نُشر: 03/07/22 23:05

يبدو السفر إلى الشمال من مدينتي باقة الغربية، قلب المثلث، مرورًا بوادي عارة نحو الناصرة اعتيادياً جدًا... ورغم أني مشيتُ الطريق ألف مرة، لكن للمرة الواحدة بعد الألف كان لها مذاق خاص، مذاق لا ينسى. اعتدتُ ان اكتب انطباعي عن زياراتي التي تتخذ بعدًا غير مألوفٍ بين الفينة والأخرى، ربما تعيد غرغرة حب المكان والتاريخ والمحلية والأصلية في نبع ذاكرتنا الفلسطينية الحية.

بدعوةٍ من مشروع مكتبة الفانوس لأدب الأطفال شاركت في يومين دراسيين نحو الولوج لعالم أدب الاطفال وسرد البعد المحلي في التطلعات والكتابة من قلم طفل إلى ذهن طفل. وفي تجربة سبر أغوار الطفولة التي تؤكد أن الطفولة مراحل عمرية منسجمة ومتصالحة مع الزمن. خلافًا لأدب الكبار الذي تتسع به رقعة الخيال والتحايل على الصيغ الزمنية بتنوعها ووالوثوب عن كثبان الوقائع والقفز نحو الغموض والخيال.
عشتُ تجربة متفردة مكثفة في البعد القصصي للأطفال التي أضفت لحياتي شيئاً من البراءة الروحية والعذوبة الحياتية من خلال ممارسات لغوية لهم عنهم وبهم.
بيد أن عالمي الواقعي هو عالم كبار بدءاً من أولادي الكبار لطلابي الكبار واغلب ما يتكاثف في سلوكياتي اليومية ومهامي على محور الكبار . ولربما هذا ما شغفني أن أقفز كظبيةٍ نحو الضفة الكتابية الثانية من النهر.
وكان النهر في قلب مدينة البشارة الاصلية ، إذ أردنا مجموعة الكاتبات والكتاب أن نتتبع مسارات تدفق الكلمة وينابيع الأفكار من جداول البعد المحلي العربي الفسطيني وتطويع مسار جريان الادب نحو الأطفال، كما تكبر الحكايا في ذاكرة الاطفال وتبقى ذات مذاق أبدي يغلفه الحنين.
المشيُ على الأقدام في صباح مشعشع متصالحٍ مع شمس منتصف أيار والدخول إلى القصة المحلية عبر حجارة السوق القديم والبيوت المتراصة، كنيسة البشارة والجامع الأبيض هو الدخول المبني سرديًا لتطور ملامح الكتابة.
حيثُ كل خطوة تأتي بلاحقتها، كطفل يكبر بين الأزقة يكبر في العمر وتلاحقه الذكريات بل وتلعب معه بالكرة، تتدحرج تلاحقه ويلاحقها.
ولاني زرت مدينة الناصرة منذ نعومة أظافري حتى اليوم، لكن التجربة الجديدة أدخلت البصر في عينّي حيال صور بشرية وحجرية وتاريخية جديدة لم أكن أعرفها في نفس الحيز المكاني والزماني، ربما تشابهت الملامح في المدن المختلطة، حيفا يافا وعكا ، لكن الناصرة مختلفة، فهي على المحور الزمني متعددة القراءات، بملمحها الديني، التاريخي والسياسي وموقعها على خارطة المجتمع العربي الفلسطيني المحلي، من هنا فتكثيف الصور الحسية وترك انطباعها عند الكاتب في محاورة لصبها في قالب إبداعي طفولي من خلال سرد ملاعب الطفولة بين الازقة الحجرية، درب التوابل في البابور والطفل الذي يعيش مع مطاحن القمح والحبوب لا يكبر مهما تقدم به الزمان، بيت فوزي عازر الذي لا يزال صامداً امام التهجير المخملي والحفيدة التي تروي قصة البيت وأثره العميق كإرث لا يقدر بثمن على الأجيال وعلى أبناء العائلة ، بيت الفيتراج، مطعم أبو أشرف وحكاية الأصالة التي صمدت عبر السنين وضيافة القهوة وحفظه للتاريخ المحلي شفويًا وغناه الثقافي الذي يعتز به كلما مر العابرون في المكان ليروي لهم القصة، قصة المقهى والضيافة.
البيوت التي لبست حلة المقاهي المزدانة بأدب وفنون الشباب الفلسطينيين الذي توافدوا على إعمار البلد وترميم الذكريات لضخ الحياة من جديد في عروق الحجارة لتنطق بالعربية لغةً وثقافةً مجددًا، دارة حنان بثوبها المطرز تخليداً لذكرى الباحثة والكاتبة في أدب الاطفال .
هذا هو الجمال الآسر، وهذه الرحلة المميزة إلى خارج المألوف لا يحتاج جواز سفر، بل إلى نية سفر في الحيز المحلي ، هدية حظيتُ بها على بعد مسافة ساعة من السفر ولكنها عقود من الزمن، ولوجي عالم أدب الاطفال من خلال مشروع مكتبة الفانوس إضاءاته في القصة المحلية مع تقديري وشكري العميق.
للحكاية في سوق الناصرة البلدي المحاط بالناس، البيوت والعراقة بين عناقيد العنب المدلاة وأحواض الورود والرياح رائحة الخبز والزعتر، صباح الجمعة، الاطفال الذين يلعبون بالحارة ويحرسون الكرة كي لا تتدحرج خارج النص.. ملامح كتابية مدهشة أدركتها في زيارتي للناصرة في المرة الواحدة بعد الألف...

مقالات متعلقة