الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 19 / مارس 09:02

بين الشعر والثرثرة

بقلم: رافي مصالحة

رافي مصالحة
نُشر: 20/06/22 16:51,  حُتلن: 17:50

في أيامنا الشقية هذه، أضحت المواقع المختلفة تنضح "بالشّعراء" على أجناسهم. صار كل من يرتب سطوراً من الكلام الذي تنعدم فيه المعاني والبحور والأوزان والقوافي وعناصر الشعر الراقي التي تداعب النفس العربية فتطربها أو تتعسها, يمنح نفسه وسام الشّعر فيعرّف الملأ (دونما خجلٍ !) على أنه "الشاعر" فلان (أو "الشاعره" فلانه) والحقيقة أن أميالا وفراسخ طويلة تحول بينه (أو بينها) وبين الشعر. إنّ الذي يثير حفيظتك هو أن "شاعرناشاعرتنا" يخطئ في الإملاء والنحو ويبدي للقارئ جليّاً جهله بأصول البلاغة ويزجّ في قوله الدخيل المستهجن من الألفاظ ممّا يخدش إحساس القارئ. النقد هنا لا لهؤلاء "المتشعّرين" اللذين همّهم تسويق بضاعتهم في كل واجهة, ولكن لكلّ تلك المواقع الألكترونية التي تلوّث صفحاتها بكل تلك السّخافات دون أيّ مراعاةٍ للذوق السليم ودون اعتبارٍ لإرثنا الأدبي العريق الذي توارثته الأجيال على مدى العصور. وفي هذا المجال لن نجد أحسن من وصف محمد ابن سلام في كتابه "طبقات فحول الشعراء" (الجزء الاول, ص. 4, شرح محمود شاكر, جده- 1980) في الكلام الذي يشبه غثاء السيول: " وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف ...".


وانتقد القاضي ابو حسن الجرجاني في كتابه "الوساطه" (ص. 17) تأثر الأدباء السلبيّ بموقعهم المكاني والزماني والشخصيّ - "وقد كان القوم يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم فيرقّ شعر أحدهم ويصلب شعر الآخر ويسهل لفظ أحدهم ويتوعر منطق غيره وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق, فإن سلاسة اللفظ تتبع سلاسة الطبع ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة".
أما ابن رشيق في كتابه "العمده" (ص. 23) فقد أخبرنا: "قالوا الشعراء أربعه: شاعر خنذيذ, وهو الذي يجمع الى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره, وشاعر مفلق وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره, وشاعر فقط وهو فوق الرديء بدرجه, وشعرور وهو لا شيء". نتوقف هنا ونتساءل: أين "شعراؤنا" الذين تنبتهم الأرض بعد كلّ مسبل هطل في هذا التصنيف, وهل من أحدٍ يرقى ولو لدرجة الشعرور ؟!.


لقد اشتغل علماء الأدب منذ الأزل في تعريف قواعد الشعر وخصائصه. فها هو قدامة ابن جعفر في كتابه: "نقد الشعر" (ص 11 ) يعرف الشعر على أنه كلامٌ موزونٌ ومقفىً وبناءً على هذا التعريف فقد ميّزَ الأدباء والنقاد بين الشعر والنظم، فالشعر عندهم هو ما ذكرنا شأنه، أما النّظم فهو الكلام الموزون المقفّى الدالّ على معنى، وضمّنوا النظمَ الأراجيزَ كألفية ابن مالك وابن معطي والجزري وما شابهها من الأراجيز العلمية والتأريخية والفقهية والعروضية.


الا ان الكثير من الكلام الموزون المقفى لم يكن جديرا بان يسمى شعراً كقول بائع الباذنجان الذي ينادي على بضاعته في كتاب البيان والتبيين للجاحظ (الجزء الاول ص. 288). الشعر الجيد في نظر الجاحظ هو "المتلاحم الاجزاء سهل المخارج قد افرغ افراغاً وسبك سبكا واحداً فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" (ص. 67).
وبمرور الزمن, فقد اهتمّ النقّاد بعناصر خمسة لا يكون الشعر بدونها شعراً وهي: العاطِفَةُ, ألفِكرَةُ, الخَيالُ, الأُسلوبُ, والنَّظمُ, والوزن والقافية هما ركيزة النظم وأُسِّه، ولا شك أن الإيقاع الموسيقي الناتج عنهما هو ما يعطي للشعر خصوصيته، ويمنحه لذته وجماله.


أمّا الشاعر شهاب الدين سعد بن محمد الصيفي المعروف بحيص بيص فقد كتب في مقدمة ديوانه بحقّ الشعر والتعريف بمنزلته، حيث قال : " فحسب الشعر فخراً أنّ الانسان يسمع المعنى نثراً فلا يهزّ له عطفاً ولا يهيج له طرباً ، فإذا حُوِّلَ نظماً فرّحَ الحزينَ وحرّك الرزينَ ، وكرّم البخيل ووقّر الإجفيل ، وقرّب من الأمل البعيد وسنّى الغناءَ لغير الغرّيد ، وكم أحدثَ سلوةً للمعمودِ وقد أعيت مداخله وكلّت لوّامه وعواذله ، وكم إستلّ سخيمةً من ذي غمرٍ عجزَ عن مُداراته الحجا وضَعُفت عن استرجاع ودّه الرقى فما كانَ متصرّفاً هذا التصرّف في النفوس والأخلاق فأكبرْ بشأنه وأعظمْ بمكانه" ) ديوان حيص بيص / ص 65).


وفي العصر الحديث، عرف الشعر ألوانًا جديدة من الأشكال الشعريه ، منها الشعر المُطلق أو المرسل الذي يتحرر من القافية الواحدة ويحتفظ بالإيقاع دون الوزن. وكذلك الشعر الحر، وهو الشعر الذي يلتزم وحدة التفعيلة دون البحر أي وحدة الإيقاع. وسُمّي بشعر التفعيلة. وأما اللون الذي لا يلتزم بوزن أو قافية فقد عرف بالشعر المنثور.


والآن, يأتي السؤال: ألا يحق للأدب أن يواكب العصر فيتغير فحواه وتتبدل ملامح سبكه وموسيقاه ؟ هل الأدب هو فقط ذلك الإرث الذي تركه الأجداد منذ بضع آلاف من السنين وكل ما هو دونه فهو هذيان لا يصلح أن يكون أدباً ؟. لقد راقتني في هذا المجال تساؤلات الدكتور شكري فيصل في كتابه: "مناهج الدراسة الأدبية" (بيروت 1965 ص. 186): "أليس الادب ثمرة من ثمار البيئة, أعني هو عصارة من عصارتها ؟ اليس هذا العنصر القابل الذي لا يبلغ ان يكون عنصراً مؤثراً ؟. وإذاً كيف نستطيع أن نعلل لتطور هذا الادب في رقيه وانحطاطه وفي تنوعه وتلونه وفي جموده ووثبته حين تكون البيئة هي البيئة: أعني حين يكون الجنس هو الجنس والمكان هو المكان والأحداث هي الاحداث ؟ كيف نعلل للانواع الادبية المستحدثة والمواضيع المستجدة والاساليب التي تختلف بين حين وحين ؟."


حريّ بكاتب هذه السطور أن يوضح بأنّ الحداثة في الشعر العربيّ العصريّ ليست بالأمر المعاب أو المنقوص, طالما ارتقت التعابير إلى تحريك المشاعر والخيالات. لا جدال أنّ الشّعر بماهيته إن هو إلا تعبير إنساني قد يتمدّد ظلّه الوارف في كلّ الإتّجاهات ليشمل ألإنسانية بعموميتها. ألشعر هو وليد الشعور وتأثّر وانفعال رؤى وأحاسيس وعاطفه ووجدان. هو صور وتعبيرات. ألفاظ الشاعر تكسو تعبيره رونقاً خاصاً ونغمةً موسيقيةً عذبةً, إنّه السّحر المتأصّل في غياهب العقل , تمنحها ذلك اللمعان العجيب ومضات الذهن وإدراكات العقل الواعي. الشّعر هو لغة الخيال والعواطف, يسعدك ويمنحك البهجة والمتعة السريعة, أو قد يدفعك نحو ألألم العميق. إنّه اللغة الحضاريّة العالية الّتي تهمس للقلب مكنونات الروح البشريّة.
في خضم القرن السابق, تسارعت خطى الحركة الشعرية الحديثة, وتغير القاموس الشعريّ (كما يقول كمال خير بك في كتابه: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر, بيروت, 1986, ص. 123) واختلفت الجمله الشعريّة الحديثة التي تحررت (برأي الكاتب, ص. 127) من قوالبها الخانقة بتأثير الرومنطيقية الغربية حيث يبدأ ببدر شاكر السياب كمثال اول لمن تحرروا من قيود الشعر الكلاسيكي, يتبعه جبران خليل جبران, وفوزي معلوف وسعيد عقل وأمين نخله, ثم ينتهي بنزار قباني "الذي تقف لغته عند عتبة الحداثة الشعرية ومعه بدأت المفردة العربيّة النزول من أعالي النبراس الى الشوارع والحدائق ومخادع النوم الدمشقيّة" (ص. 128).


أمّا الدكتور عبد الواحد لؤلؤه في دراسته الرائعه "البحث عن معنى" (بغداد, 1973) فيفتتح كتابه (في نقد رواية صيادون في شارع ضيق لجبرا ابراهيم جبرا) بالمقولة: "لكي يكون العمل الادبي ناجحاً, يجب أن يتوافر فيه صدق التعبير عن واقع الحياة ودقة التصوير لمشكلات المجتمع". وهنا نتوقف ثانيةً لنتساءل: إلى أي مدى يشتغل من ينسبون لأنفسهم صفة الأدباء في واقع حياتنا ومشكلات مجتمعنا ؟. إنّ المراقب ليجزع من كثرة من يبكون ويتلوعون خلال ما يسمّى بالشعر في صفحات المواقع الاكترونيّة على حبيب غاب أو الحبيبة التي هجرت, بطريقة ما (ربما يكون هجرا لحساب الفيسبوك مثلاً !) وكأن همومنا زالت عدا هم القلوب والعواطف.


لقد توصل الدكتور لؤلؤه إلى أن التحوّل الذي حدث في الأدب العربي الحديث ما هو إلا لتأثر الشعراء العرب وتعرضهم للشعر الغربيّ الحديث في أوروبا وأمريكا كشعر فيليب سدني (1554 – 1586) وشيلي (1792 – 1822) وبايرون (1788 – 1824). في الصفحه 60 من كتابه, يقول الكاتب ان نازك الملائكه وبدر شاكر السياب تأثرا الى حد كبير بالشعر الانجليزي المعاصر (وخاصة بايرون, وتوماس كراي, وت. س. اليوت, ووالاس ستيفنس) مما حدا بهم كتابة الشعر بعيدا عن صورته التقليدية كشعراء رواد مبدعين في هذا النسق الجديد.


لقد بلغ الشعر العربي المعاصر (وخاصة بايرون, وتوماس كراي, وت. س. اليوت, ووالاس ستيفنس) مما حدا بهم كتابة الشعر بعيدا عن صورته التقليدية كشعراء رواد مبدعين في هذا النسق الجديد.


لقد بلغ الشعر العربي المعاصر اليوم الى مرحلة التبلور لكن دون التحرر من تأثير الأدب الغربي, حديثاً كان أم قديماً (كتأثير الأساطير اليونانية مثلا التي تركت أثرها في شعر كثير من ذوي الحداثة).لقد كتب الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر" (بيروت 2007) في الصفحة 173 أن الشعر العصريّ تشكلت فيه عناصر موسيقيّة جديدة وطغى الغموض على القصيدة كظاهرة تميز غالب النتاج الادبي في ايامنا واصبحت الاسطورة منهجا يحتذيه الشعراء في كتاباتهم ودخلت الى القصيدة مصطلحات جديدة لم نعهدها.


بقي أن نأمل قيام جيل آخر مختلف من الشعراء, يعي أن الشعر علم له أصوله وقواعده, لا ترتيب كلمات نتعمد ألا يفقهها قارئنا, والشك الدائم هو في فهم الكاتب نفسه لما تخطه يداه !!. والأمل أيضاً أن ينشأ جيل من المحررين الأدبيين اللذين يعرفون ما يصلح للنشر وما لا يصلح, واضعين نصب أعينهم النهضة بأصحاب الموهبة الحقيقية, لا ملء الصفحات بكل ما تتلقفه الأيدي من صالح ونافل.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   


مقالات متعلقة