الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 09:02

عن مَصيَدة التحقيق

بقلم: أمير مخول

أمير مخول
نُشر: 12/05/22 22:13,  حُتلن: 09:49

الموقف الفلسطيني الأساسي هو ليس التحقيق في ظروف وحيثيات استشهاد الاعلامية شيرين ابو عاقلة، بل هو توثيق عملية الاغتيال الاحتلالية، وذلك ضمن السعي لاخضاع دولة الاحتلال للعقاب، عقاب الشعب الفلسطيني وعقاب العدالة الدولية حتى وإن لا يوجد توقُّع بألاّ تكون منقوصةً.

في اللحظة التي يَقبل فيها الفلسطينيون بلجنة تحقيق، حتى ولو كانت دولية، نكون قد خسرنا بعضاً من الموقف. فالعالم الغربي يحزم الموقف حيثما يريد، ويدعو للتحقيق حيثما لا يريد ان يحزم، وعلى قدر نضال شعب فلسطين يحدث التحوّل والتحرّك الدوليين. لنتصوّر مثلا أنّ جريمة مماثلة حدثت في اوكرانيا، فلكانت الاتهامات الحازمة والمباشرة قد صدرت وقبل التيقّن من أية حيثيّات ودون أيّ لجوء لها. بينما في حالة اغتيال اسرائيل لشيرين الواضحة وضوح الشمس فهي "قضية فيها نظر" إنه "نظر" غربي فحسب.

لا يملك الشعب الفلسطيني القدرة على مجاراة قدرات اسرائيل التكنولوجية في مساعيها لإخفاء بصماتها، فهي دولة قائمة ومؤسَّسة على الإخفاء والتنكّر وطمس الحقائق، وهذا جانب مركزي من مكوّنات عقيدتها. تتكدّس في ارشيفاتها كميات هائلة من تدوينات الإخفاء لمجمل جرائم المشروع الصهيوني منذ حطَّ في فلسطين، وبالذات جرائم الطرد الجماعي والتطهير العرقي وارتكاب المجازر والنهب، وعليه فإنّ شعبنا يتّهم الاحتلال ودولته، كما ويؤكد صوت الشعب بأنّه لن يرفض أيَّ تحقيقٍ من قبل المجرم في جريمته، ولا ثقة في الاحتلال ولا في دولته ولا في قضائه الشريك في كل جرائمه، إنه قضاء للقضاء على الحق الفلسطيني ولحماية المجرم الاسرائيلي، بل إنه قضاء "قرش شدمي" الذي حكم به قائد القوات التي ارتكبت مجزرة كفر قاسم، ناهيك عن عشرات المجازر الجماعية التي ترفض حتى الاعتراف بها او بحدوثها، وترفض الاعتراف بقضية اللاجئين والمهجّرين، ولم يحصل أن عوقب سياسيّوها او ضباطها على أية جريمة ارتكبت.

تسعى دولة الاحتلال الى جر فلسطين والعالم الى دوّامة المطالبة بلجنة تحقيق في جريمة هذه الدولة وجيشها. ويكثر الحديث الاعلامي والسياسي عن التحقيق الدولي في اغتيال جيش الاحتلال للاعلامية شيرين عاقلة. فإلى جانب التغطية الهائلة والجديرة للحدث، يكثر الحديث عن التحقيق كما لو كان شأناً موضوعيا او محايداً. التحقيق الدولي يخضع لتوازنات القوى على الارض وليس مستقلاً عن مصالح الاطراف، وقد يكون ممكناً في حالات معيّنة، لكن ليس أمام جريمة اغتيال شيرين.

يتوجه رئيس حكومة اسرائيل بينيت وبكل صفاقة واستعلاء عنصريين وبروح "الرجل الأبيض" الاحتلالي والمستعمر، ويدلي بروايته محاولا اتهام شعب شيرين باغتيالها، وفي التستر بأقنعة علّه يبدو فيها ضحية، ووضع اغتيال دولته لشيرين في سياق "محاربة الارهاب"، وكل فلسطيني في نظره هو ارهابي ربما باستثاء شخصية عربية واحدة مؤتلفة معه. لم يقصد بنيت ان يقنع الرئيس محمود عباس بل اراد ان يتحدث الى شعبه والى جنوده والى جيش الاحتلال الارهابي. الا ان الأخطر من بنيت كان وزير خارجيته "المعتدل" لبيد، الذي توجّه بكل لبادة الى القيادة الفلسطينية يدعوها لاجراء "تحقيق مشترك"، لم يقصد لبيد أن يسمعه القادة الفلسطينيون ولا شعب فلسطين بل اراد ان تنعم له اذن العالم الغربي. وفي حين قام "المعتدل" الاخر بيني غانتس وزير الحرب والمجازر في غزة، بمطالبة الفلسطينيين بتسليمه بقايا الرصاص الانشطاري الذي تفجّر في راس شيرين، والذي أطلقه القناصة الاسرائيليون من البندقية الامريكية الصنع والمعدّة للقتل ليس إلا، وهذا الاخير يريد ان يحمي صناع البندقية وأن يحمي مطلقو النار القتلة. ثم أنه حذّر بأنه من دون الرصاصة فلن يكون بإمكان دولته استنفاد قيام دولته بتحقيق "مهني" والتوصل الى "اليقين"!

كان من الاهمية بمكان أن يؤكّد الرئيس محمود عباس في كلمته في تأبين شيرين في مقر الرئاسة في رام الله، رفض التعاون مع الاسرائيليين في اي تحقيق، والتوجه الى محكمة الجنايات الدولية مباشرة حتى ولو ردّت المحكمةُ الشكوى الفلسطينية، ورغم جدارة هذا الموقف الا انه قد يتعرّض لضغوطات اسرائيلية واوروبية وامريكية لثني الفلسطينيين عن قرارهم. إن هذا ليس بالسلوك الجديد بل كذا كانت الحملة الشرسة التي قادها في حينه شمعون بيرس في العام 2002 لثني القيادة الفلسطينية عن التوجه الى الجنايات الدولية في أعقاب مجزرة الاحتلال في مخيم جنين. ويكاد يكون هذا السلوك بعد كل مجزرة ارتكبتها دولة الاحتلال. كما ومن المحتمل ان تستخدم اسرائيل سياسة الجزرة في طرف العصا، بأن تقترح صفقة "تحسين" الشروط الاحتلالية، مقابل التراجع الفلسطيني عن المحكمة الدولية. كما وقد تكون الضغوطات الامريكية أكثر خطرا وفاعليّةً من الاسرائيلية. رغم جدارتها، باعتقادي أنّه من المبالغ فيه اعتماد صحيفة هآرتس الاسرائيلية كمرجعية للإعلام الفلسطيني والساسة الفلسطينيين. ومن الاجدر ان يتمحور الخطاب الفلسطيني في اتهام اسرائيل وعلى الرواية الفلسطينية وبالذات القادمة من موقع الجريمة.

يبقى الرهان الاساس على شعب فلسطين الذي يكرّم شيرين، بكل مستوياته الشعبية والقيادية والدبلوماسية والاعلامية والفصائلية والسياسية، فإنّ المفتاح لأي تحوّل بالموقف الدولي منوط بنضال الشعب الفلسطيني على ارض الوطن. هذا الشعب الذي أعادت شيرين لحمته ووحّدته في الحزن المشترك والضمير المشترك، والغضب المشترك والإصرار المشترك والقضيّة الواحدة. فبقدر نضاله لإنهاء الاحتلال والمنظومة الاستعمارية الاستيطانية يكون التحرّك. لا توجد اختصارات في طريق النضال الشاقّ والقاسي والمستنزِف، لكنه الطريق الوحيد الواعد.

من الضرورة التنويه والتنبيه الى أنّ السلوك الاسرائيلي لا يرتدع من الجريمة التي ارتكبتها دولته. بل ان المسلك الذي قد تعتمده دولة الاحتلال هو التصعيد الدموي وحتى التصفيات وتأزيم الوضع بعدوان متجدد وقد يكون عنوانه جنين ومحيّمها، كل ذلك كي تزيح الانظار وتخرج من مأزقها الذي تتخبط فيه.

في محصّلة المشهد، فإن اسرائيل قد اخفقت، وتخفق كل يوم في عدوانها على الشعب الفلسطيني، وإذ حدّدت بأنّ هدفها الاستراتيجي بعد هبّة الكرامة وسيف القدس، هو "الفصل بين الجبهات الفلسطينية" كما حدّدت، فإنها في جريمتها في مخيّم جنين وفي القدس وفي الداخل إنما تخلق نقيض أهداف عدوانها. لقد نجحت شيرين أبو عاقلة في توحيد القضية وتوحيد الشعب وتوحيد فلسطين، وهذه معادلة واعدة في الطريق لحرية الشعب وحرية فلسطين.

نحمل أحزاننا ونواصل. لروحها السلام شيرين أبو عاقلة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة