الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 10:02

كيف نحوّل إشراك الجمهور في التخطيط من شعارٍ الى حقيقة؟!- المحامي د. قيس يوسف ناصر

المحامي د. قيس
نُشر: 03/05/22 23:18

إنّ إشراك الجمهور في التخطيط العمرانيّ وسيلة ضرورية لضمان العدالة والنزاهة في التخطيط. يجعل اشراك الجمهور التخطيط ديموقراطيا وشفافا، ويساهم أيضا في تحسين المعلومات والمعطيات التي بحوزة لجنة التخطيط المعنية، وهو يوسّع بذلك امكانيات وبدائل القرار المتاحة أمامها لتختار القرار الأنسب وفق ظروف وحيثيات كل حالة. كما ان استغلال المعرفة والتجربة الذاتية والمحلية للمجموعة السكانية المعنية وتكوين التخطيط بالتعاون مع السكان لا بالإكراه وبالخفاء، يزيد من احتمالات الحصول على منتجات تخطيطية جيدة ومقبولة.

وعلى الرغم من المواقف الرسمية في البلاد حول أهمية اشراك الجمهور في التخطيط، فان اشراك الجمهور في إسرائيل ينفّذ على وجه العموم بشكل صوريّ ودون نيّة حقيقية لإشراك الناس وللاستفادة من تجربتهم ومعرفتهم ومطالبهم.
لهذه الظاهرة أسباب كثيرة. أولا، حتى الساعة لا يلزم قانون التنظيم والبناء مؤسسات التنظيم والبناء باشراك الجمهور في مراحل تحضير المخطط التمهيدية والمبكرة. وفقا للقانون الحاليّ يستطيع الجمهور ان يعبّر عن رأيه حول مخطط ما وان يعترض عليه عند إيداع المخطط للاعتراضات فقط. ذلك رغم اعتراف مؤسسات التخطيط والمحاكم ان تقديم اعتراض على مخطط هيكلي بعد ايداعه لا يحمل نفس القيمة والقدرة على التأثير فيما لو تم تقديمه عند اشراك الجمهور بالمخطط وهو في مراحل إعداده المبكّرة.
ثانيا، حتى اليوم لا يوجد في إسرائيل نظامٌ رسميٌ يقرّ المعايير والمواصفات المطلوبة لإشراك الجمهور في التخطيط. أقصد نظاما قانونيا يحدد متى وكيف يتم اشراك الجمهور؟ ومن الذي يجب اشراكه؟ ومن هو الطاقم المؤتمن على اجراء اشراك الجمهور؟ وما هي المعلومات التي يتم تبادلها مع الجمهور؟ وكيف يتم الاهتمام بالملاحظات والطلبات التي يقدمها الجمهور على التخطيط المقترح؟ لهذا السبب نجد ان إجراءات اشراك الجمهور في البلاد ليست موحّدة، بل تختلف وتتباين من مخطط هيكلي الى آخر وفق تقدير ورؤية ومصالح طاقم التخطيط المعني. وهذه في نظري ظاهرة سيئة تغذي الفساد وبالأخص حينما يكون السكان المتضررون من التخطيط من الفئات الضعيفة والفقيرة او ممن لا يملكون دراية كافية في أمور التخطيط او القدرة على مواجهة المخططين والجهات المسؤولة.
ثالثا، لا يمكن النظر الى اشراك الجمهور كمهمّة بسيطة، بل هي مهمة معقدة تحتاج الى القدر الكافي من المعرفة والتجربة وثقافة العمل مع المجتمعات. ويكون اشراك الجمهور معقدا أكثر حين يتعامل التخطيط مع فئة سكانية ذات مميزات خاصة من جهة مكانتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونمط حياتها وسلوكها. وقد أصبح مضمار اشراك الجمهور علما بارزا من علوم الاجتماع والحقوق والسياسة يدرّس في الجامعات ومراكز الابحاث. مع ذلك، يتم اشراك الجمهور في البلاد بواسطة المخططين الذي يعدون هم أنفسهم المخططات الهيكلية، حتى لو ان معظمهم لا يملك خبرة واختصاصا في إجراءات اشراك الجمهور ولا يتقن التعامل مع المجتمعات المختلفة.
لهذا الأسباب وغيرها نجد ان كثيرا من المواطنين لا يؤمنون بإجراءات اشراك الجمهور في التخطيط، بل ان ضعف وسطحية إجراءات اشراك الجمهور عززت لديهم الشعور بعدم الثقة والخيبة تجاه مؤسسات التنظيم والبناء واتهامها بالفساد والانحياز والعنصريّة.
وعليه، لا يمكن في رأيي الاعتراف بأهمية اشراك الجمهور في التخطيط فحسب، بل ان تعزيز هذا الاجراء كإجراء مركزي وفاصل يضمن عدالة وسلامة التخطيط يحتاج أمورا جوهرية اضافية. ومن بين أمور عديدة، يجب ضمان حيادية الطاقم المسؤول عن اشراك الجمهور. اقصد ان يكون الطاقم الذي يتولى مهمة اشراك الجمهور حياديا ونزيها ولا يعمل من خلال آراء ومواقف مسبقة، منفتح ويتقبل الآراء المختلفة وغير مقيّد بمصالح تلوّث وتمس تقديره الفنّي. زد على ذلك ان المدرسة السائدة اليوم في عالم التخطيط تدفع بالنهج التخطيطي المدعو "خلق المكان" (Place Making) أي ان يعطى السكان وأصحاب الأراضي المعنيين الحق في تخطيط حيزهم بأنفسهم. يكون الجمهور المعني وفق هذا النهج مبادرا وقائدا للتخطيط وليس مجرد "لاعب ثانويّ" او عامل "مستهلك" للتخطيط. يتطلب هذا الامر ان تغيّر مؤسسات التخطيط نهجها وطريقة تعاملها، من "التخطيط للسكان" الى "التخطيط مع السكان". يجب أيضا التعامل بشكل محترم مع الناس وأصحاب الشأن، أي ان يشعر المواطن ان اعتراضه على التخطيط يُسمعُ ويفحص ويُدرس ويُحسم بشكل مهنيَ وشفاف وعادل، دون استهتار ودون تمييز ودون استعلاء.
في نظري، ما زالت مؤسسات التنظيم والبناء في البلاد غير ناضجة نسبيّا من جهة اشراك الجمهور في التخطيط مقارنة بدول ديموقراطية أخرى في العالم قطعت شوطا كبيرا في هذا المجال. حان الوقت ان نحوّل اشراك الجمهور من أمر صوريّ الى واقع عمليّ وحقيقيّ. "الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون" (انجيل لوقا 2:10).
*يحمل درجة الدكتوراة في القانون من جامعة تل ابيب، ورئيس قسم التنظيم والبناء في مكتب محاماة م. فيرون حيفا
 

مقالات متعلقة