الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 11:02

في اقتفاء الفكرة للكاتب أمل أبو زيدان/ بقلم: د. جودت عيد

د. جودت عيد
نُشر: 20/04/22 09:06,  حُتلن: 12:57

"نصوص متحرّرة"، كما عرّفها الكاتب أمل أبو زيدان على غلاف كتابه "في اقتفاء الفكرة"، هل تلك نصوص تحرّرت من سطوة الفكر؟ أم هي متحرّرة من القوالب والتّعريفات؟ أسئلة لا بدّ منها يدعوك الكاتب إليها، كما يدعوك، من خلال قراءة هذا الكتاب، لتروح بالاستفهام المستديم، فالكاتب والمثقّف جاء ليسأل، وليس بالضّرورة يريد إجابة لتساؤلاته.

لا يهدف الكاتب في هذه النّصوص إلى إمتاع القارئ أكثر من خلق حالة التّحدي لديه، فيأخذك إلى الحيرة، أحيانا يربكك، وأحيانا يتماهى معك وأحيانا أخرى يستفزّك. تكاد تعتقد، أحيانا، أن الكتاب يتألّف من قصص قصيرة جدّا، وأحيانا تجده كتابا فلسفيّا يضعك أمام كمّ هائل من الفكر، ويدعوك بلطف للتّفكير أو لخلق حواريّة ذكيّة لتدخل في دوّامة الاستفهام حتّى النّهاية. لا يوجد نصّ مركزيّ في الكتاب، ونجد أنّ كلّ نصّ يستقلّ بفكرة ورؤيا خاصّة به، ولا علاقة للنّصوص ببعضها البعض، وكأنّها كتبت بفترات متباعدة، الأمر الّذي قد يفسّر قوّة بعضها أكثر من بعضها الآخر.
من أين تبدأ الحكاية وما هي المحاور التي يطرحها أمل؟ فهو يعرض للقارئ معالم حياتيّة كثيرة، بعمق وصياغات لغويّة لافتة ويأخذه إلى عدّة اتّجاهات، لكن دون اتّجاه واحد واضح، تلك العبثيّة في حلقة مفقودة تشكّل حلقة تواصل لا يهتدي إليها أحدٌ إلى أيِّ مكان، حالة تجوال في التّيه، علّنا نهتدي، كاحتمال ثالث بعد الشّاطئ أو ربما مَطلّ ما؟ ولماذا؟ كي نرى من بعيد، ولماذا الحاجة للنّظر إلى البعيد؟ كي نرى القريب، فالمسألة ترتيب النّظرة وتكوينها (صـ 10).
"ما هو النّور الحقيقي؟"، هذا الاستفهام ليس مألوفا، "لماذا نترك نجوم السّماء؟" هل نحن بين نجوم السّماء؟ لتأتي اجابة: "ليتك تدع النّجوم السّماويّة للسّماء، وكن نجمة أرضيّة". من خلال الاستفهام الدائم، يحاول الكاتب البحث عن معنى ولكن ليس بالضّرورة عن إجابة، ويجسّد الفكرة هنا (صـ 11) من خلال البعد الجبرانيّ والرومانسيّ في نهاية المطاف وفي بدايته، وهو العودة إلى البداية وبساطة النّاي، لندرك المعنى وعمق المعنى أكثر من أيّ شيء آخر. ومرة أخرى (صـ 21) يدور في أروقة المدرسة الرومانسيّة ويعود إلى الطّبيعة والحديث مع الكناري، الّذي يستريح على شرفته المطلّة على الأحلام واليقظات، لينهي لقاءه معه باقتباس من درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" (صـ 25، 26). التّوق إلى الحياة الهادئة، "لماذا السّرعة؟/ إلى أين ماضون؟"، "إلى بلد أقلّ كثافة" (صـ 36) "هل يمكن الرّحيل إلينا؟" حواريّة شائكة وشائقة، إلى جانب تصوّر فلسفيّ لتفسير الطّبيعة ودور الانسان في تغييرها من خلال حوار بين جدّ وحفيده يدعوه فيه إلى العودة إلى الطّبيعة ( صـ 27).
بالرّغم من البعد الفلسفيّ الوجوديّ والعمق في الطّرح ونجاح الكاتب لتوجيه القارئ حيثما يشاء، إلا أنّنا نجد في بعض الأحيان وفي بعض النّصوص مواطن ضعف، مثلا (صـ 53) المباشَرة وافتعال الحالة والحواريّة وكأنّها مضطرّة لتخدم الفكرة ولا تنساب بشكل طبيعيّ، ونجد مقطوعة لم تسهم باضافة أيّ شيء لافت (مثلا صـ 65) ، وأيضا في (صـ 101) يحاول النّص أن يلائم نفسه للفكرة بشكل مبتذل وبجهد ملحوظ ومباشَر.
كما كل مثقّف في هذه البلاد، الذي يعيش هموم النّاس، يحاول أن يطرح الكاتب موضوع الهويّة لكن بشكل ذكيّ ومختلف، فيتحدّث في "الهويّة الأولى" (صـ 16) عن الصّدمة التي يجد لها حلّا ذكيًّا، ليعرّف حضوره وفق مقاييس ومفاهيم محدَّدة، وفق وجهة نظره لهُويّته الفُضلى، ولكن يضعنا في الواقع، حيث أنّ هذه الهُويّة التي تحمل أبعادًا انسانيّة روحانيّة محض، ليست مقبولة وبالتّالي صدمته تلك، تُخرجه من "الأوتوبيا" ومن المثاليّات والأحلام ويقول في نهاية القطعة: "وبلغ الرّشد" ويتركك لاستخلاص العبرة وللتّعامل مع شتاتك كيفما تشاء في دائرة رشدك.
تبدو نصوص الكتاب أحيانا بأنّها تكشف قضايا خاصّة بالكاتب، وتطرح أسئلته، واستفهامه الأزلي، وحواريّاته التي يدور في مداراتها، ويبرز ذلك في العنونة مثلا: "وأما عن اكتشاف العالم الداخليّ"، فيُخرج كلّ ما يجول في ذهنه من خواطرَ وبُعدٍ فلسفيّ ويُشركنا حالة التّيه أو الحضور، في آن واحد، أو السّلام الداخليّ أو البحث الدّائم عن الحقيقة، أو البحث في مغاور الذّات للارتقاء فكريًّا وروحيًّا وحتى جسديًّا. في مسيرة البحث الذّاتي (مثلا صـ 22) يُفصح الكاتب عن مكنونات ذاته، وأحيانا يلمّح إلى مواقف، وأحلام، وخيبات، وتخبطات، وأسئلة وجوديّة وفلسفيّة في مدارات تعامل الكاتب بحساسيّة مع محيطه ومركّبات النّهار الّذي يعيشه أو يرنو إليه.
نرى في العديد من النّصوص "فذلكات كلاميّة كتابيّة" واستعمالات لغويّة جذّابة، مثلا: "البارحة وقد خلع عنه ظلّه، قال: أتدري يا صديقي، أود أن أحظى بتحليق معك... لأرانا من علٍ، ولأعود بعدها لأكمل كتابة الدّعوة" (صـ 20)، كذلك نجد استعارات لافتة وتلاعبا كلاميّا، (مثلا صـ 111) "هل سنعود إلى سابق عمدنا؟" وفي (صـ 118) "أعصابًا/ أعشابا، مبيدات شعورية/ مبيدات حشرية" وفي (صـ 123) "خطوط الالتواء/ الاستواء، منخفض شعوري، بعض الصّفاء/ بعض الهواء، وسائل الأحلام/ وسائل الاعلام" ليصف أيضًا شيئا من النّفاق المجتمعيّ، والتّنافر الذّهنيّ الّذي قد يكون.
من هو "هو"؟ من هي "هي"؟ من أولاء الّذين من خلالهم يتكلّم الكاتب؟ (مثلا صـ 26) هل هو الكاتب نفسه؟ هل هو كلّ واحد منّا؟ وهل الحواريّات هي اختلاط الحالة الواقعيّة بالمسرحيّة والتّضارب بين الذّات والذّات المسرحيّة؟ الكثير من النّصوص تبدأ بضمير الغائب (مثلا صـ 24)، "لأنّها/ لم يتخيّل/ كانت تخشى/ مضى وايّاها/ قالوا/ هو / هي" من هو الذي "من طقوسه الخلوة أحيانا على الشّاطئ"؟ (صـ 61). يضيف الكاتب بُعدا آخر ليطرح حالة مجتمعيّة أيضا، "من أين نبدأ؟" (صـ 67) يصف بالنَّصّ حال عمل "الّلجان" الّتي يتمّ تعيينها "لحلّ" قضايا، ولا تقوم بعمل غير انعقادها واجترار الذّات "وطزع الحكي" وتنظيم المؤتمرات التي لا تترجم بأيّ عمل نافع. وفي مرمى المجتمع نجد أيضا نصّ "عواصف رعديّة"، ليطرح فكرًا جذّابا حول قائد، متمرّد ثائر (صـ 97 نص "أخشى") ما بين حضوره وغيابه، ما بين الكيان والخوف والقلق في مجتمع هشّ مستهلك (صـ 115) ما بين المادّيات والأفكار، على "جدران غير مرئيّة" (صـ 133) ما بين الواقع والواقع الآخر، ما بين الشّكليّات والمجاملات وما بين البواطن، ما بين النظريّة والواقع، ما بين التّعقيد والبساطة (صـ 120 صـ 136) ليضعنا الكتاب، مرّة أخرى، في استفهام كبير وقلق بعيد، لنجد بعد ذلك حكمة، أو صدمة، أو نهاية مفتوحة.
نقرأ في النصّ "بلوغ القمّة" (صـ 152 – 154)، فلسفة حياتيّة تلخّص مضمون الكتاب في حكاية لطيفة حول مفهوم الحياة للوصول إلى قمّة ما، لتبقيك أيضا في ذات الحالة الاستفهاميّة في نهاية النصّ "...وماذا بعد؟" لتدرك هامشيّة الّلحظة وأهميّتها في آن واحد، ليرافق القارئ ذات الهاجس في البحث الدّائم عن معنى، عن قصّة، عن سّؤال (صـ 145)، دون الحاجة أو الضّرورة للوصول الى برّ ما أو ربّما إجابة ما، كما هو سَعي كلّ مثقّف غير محدود في زمكانيّة أو جغرافيّة ما.
كتاب "في اقتفاء الفكرة" و"نصوصه المتحرّرة"، هو حكايةُ أملْ الكاتب، وحكاية الكثيرين من المثقّفين والمبدعين، والأشخاص الّذين لديهم القدرة على رؤية الأشياء بشكل مختلف.
 

مقالات متعلقة