الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 04:02

الكمين/ بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 24/02/22 11:43,  حُتلن: 12:25

خيّم الصمت على المطبخ التابع للصحيفة، علينا نحن العامليَن الجديدين فيها، هي وانا، حتى شعرنا أو كدنا نشعر أنه لا يوجد أحد في المكان سوانا، ولم يخرجنا من هذا الشعور سوى صوت موظف قديم، وصلتنا أخبار علاقاته الغرامية قبل أن نتعرّف عليه ونراه رأي العين.


رفع الداخل علينا يده في الهواء ملوحًا بها كأنما هو يريد أن يقول لنا إنني أتيت لضبطكما متلبسين بحالة غرامية.. ووجّه كلامه إلينا مرفقًا إياه بابتسامة غامضة:
-يبدو أنكما مرتاحان تمامًا.. في هذا العش الدافئ.
انصرف الموظف القديم من المطبخ دون أن يأخذ شيئًا معه.. ما أثار شكوكنا، فلماذا هو أتى إلى هنا في لحظة الهدوء الشديد هذه.. ولماذا قال ما قاله، ثم لماذا أوغل في القائه كلمات حملت ما وراءها من معانٍ واضحة.. بل لماذا هو ذكر العش والدفء؟.. انشغل كلانا بطرح السؤال تلو السؤال دون أن نجد الاجابة.
قالت زميلتي وهي تحمل غلاية القهوة بيدها لتضعها على النار اللاهبة:
-أظن أن مراقبة هذا الموظف عن كثب.. يمكن أن تمنحنا امكانية كتابة تقرير صحفي يليق بموظفين مبتدئين..
بما أننا كنّا، هي وأنا، منشغلين في البحث عن موضوع جديد ولافت، فقد جاء كلامها هذا في محله. قلت لها:
-والله فكرة. نُعدُّ تقريرًا عن العلاقات السرّية في مجتمع ابتدآ في الانكشاف على العالم أثناء فترة تتصف بالتحوُّل السريع نحو العولمة.. وأضحى العالم ليس قرية صغيرة فحسب، وإنما بات شخصًا واحدًا يختصر الكون في تلفون صغير.. يُمكّنه من اصطحاب العالم والدخول برفقته إلى مطبخ صغير كهذا.
صفّقت بيديها:
-رائع.. رائع. لكن من أين نبدأ؟
ابتسمت وأشرت إلى فراغ المطبخ أمامي:
-من هنا نبدأ.
ابتسمت زميلتي، فعرفت أنها فهمت كل شيء، لقد وافقت على أن نبدأ عملنا في المراقبة من ذلك المطبخ. وتمّ الاتفاق بيننا، هي وأنا، على أن نتبادل المراقبة، محدّدين الوقت، هي خلال ساعة هدوء وأنا خلال ساعة أخرى، لم تطل مراقبتنا، وتأكدنا مما سمعناه عن ذلك الموظف القديم، كان ذلك عندما جاءت إلي بعد مراقبة، لها ولي أيضًا، تواصلت ثلاثة ايام، لتخبرني أن الصنارة غمزت وأنها رأت موظفة قديمة وصفتها بأنها فائقة الجمال.. مغرية وجذابة.. تتسلّل خلال تخييم الهدوء على أجواء المطبخ، إبان ساعة لا قهوة فيها ولا شاي، كانت تختبئ هناك.. منتظرة بضع دقائق.. بعدها يتسلّل الافندي.. حضرة الموظف القديم.. يغلق الباب خلفه ويجلس كأنما هو يمنع أيًا ممن ينوون الدخول منه.. موهمًا أن الباب مغلق.
-ماذا كانا يفعلان. سألتها بحماس. ردّت وبدا في عينيها غزل لطيف:
-ومن أين لي أن أعرف ما داما قد احتاطا تمامًا لأي طارئ؟
نقرت على خشبة تائهة أمامي:
-وجدتها.
سألتني بلهفة:
-كيف؟
طلبت منها أن تطوّل روحها، وشرعنا معًا في ترتيب الامر. أحضرنا عدة حَفر تمثّلت في ثاقب كهربائي، وتوجّهنا إلى الناحية المقابلة لباب المطبخ. أحدثنا فيها ثقبًا، يُمكّننا من أن نرى مَن يكمن وراء الباب. وقرّرنا معًا أن نقوم هذه المرة بالمراقبة معًا، هي تنظر من ذلك الثقب السحري مرة وأنا اتبعها، فانظر بدوري. في ساعة هدوء حقيقية نام فيها المكان واستلقى على ظهره من شدة هدوئه. نظرت هي فلم ترَ شيئًا. قالت:
-يبدو أنهما أحسّا بالثقب.
بقيت صامتًا، وقلت لنفسي لا.. لم ينتبها، لأنهما لو فعلا لأغلقا الثقب على الاقل بأي طريقة، وكل الطرق ممكنة في هكذا حالة.. واستثمرت يأسها... فغرست عيني.. عندما شعرت أن الباب اغلق تمام الاغلاق.. لأرى ما لم أكن اتوقعه. دخل هو أولًا. تفحص المكان جيدًا جدًا. وانتظر لحظات ليتأكد من أن أحدًا لن يباغت المكان في تلك اللحظة.. المتسمة بالهدوء والغفلة. بعدها وضع يده مُطلقًا صرخة ببغاء شبقة.. أطلقها خلال لحظة خاطفة.. فهمت أنه أراد لإنسان آخر واحد غيره أن يسمعها. ما ان اطلق تلك الصرخة المكتومة حتى دخلت هي غرفة باب المطبخ.. طائرة على رؤوس أصابعها.. وأغلقت الباب وراءها بظهرها.. بحيث لا يتمكّن أحد من فتحه.. ليبدو أن الخدمات المطبخية توقّفت في تلك اللحظة. تعانق الاثنان. ناسيين العالم وما فيه ومتوحدّين في حالة وجدٍ ومحبةٍ أشبه ما تكون بلحظة عبادة. غرست عيني أكثر فأكثر في ذلك الثقب السري. ونسيت أن وقت مراقبة زميلتي قد حان. لأشعر بها في التالي تضع يدها على كتفي لتذكّرني بدورها المغتصب. لا أعرف لماذا رفضت أن انزاح عن ذلك الثقب في تلك اللحظة. تعلّقت بالثقب مثل إنسان يرى العلاقة الحميمة أول مرة في حياته. وكنت أشبه ما أكون بإنسان ثمل.. أفاقت فيه غريزته الهاجعة في أعماقه فجأة.. فعمل عقله في خدمتها.. وجاءت النتيجة المحتّمة.. كادت عيني تخترق ذلك الثقب وتنطلق نحو العاشقين المدنفين وراء بابهما السري. أثناء ذلك استولى عليّ إحساسٌ طاغٍ باللهفة. وصرتُ رغبةً كاملة متكاملة، وأشبه ما أكون بغالون مملوء بالبنزين.. لا ينقصه إلا شرارة ويشتعل.. فيصل لهيبه السموات العليين. يبدو أن هذه الحالة أثارت حُبّ استطلاع زميلتي، وشريكتي في خندق المراقبة ذاك، فأزاحتني بقوة، لا أعرف من أين استحضرتها، لتغرس عينها بالتالي في ذلك الثقب الكريم، ولتشرع في المراقبة. غير أن ما رأته كما تبيّن فيما بعد كان مختلفًا، إذ يبدو أن الموظف المحنّك القديم.. شعر بأن هناك من يراه من مكان آخر بعيد، لا يعرفه، فأدى باتفاق مسبق مع عشيقته دورًا تمثيليًا.. قام هو بدور مَن أصابته نوبة قلبية، فيما أخذت هي.. من معه وبرفقته، في إحيائه والنفخ في فمه. بعد لحظات قليلة جدًا لا تتجاوز الثواني المعدودات.. ارتدت زميلتي عن ذلك الثقب خائفة وجلة.. فأقدمت على الثقب أرسل نظراتي الحادة عبره. دخلت أنا أيضًا في الجو.. فأصابتني حالة من الرعب.. هل ما أراه حقيقةً أم وهمًا.. فتحت فمي لأصرخ.. وفوجئت بأكبر ما يمكن أن يحدث لاثنين في مثل وضعنا.. وضعت زميلتي فمها على فمي.. وراح كل منّا يمص لسان الآخر.. بشهوة.. فيها مِن فرح الحياة الكثير.. ومن رهبة الموت القليل... القليل.
 

مقالات متعلقة