الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 18 / أبريل 02:02

وُجوهٌ صفراء/ بقلم: الأديبة جميلة شحادة

الأديبة جميلة شحادة
نُشر: 27/12/21 11:58

لماذا لم يقتنع الطبيب بكلامي؟ لقد أخبرته عن كل ما أعانيه من أوجاع، لقد وصفت له الأعراض التي أشعر بها. لماذا لم يقتنع الا عندما أخبرته أن لون وجهي قد أصبح أصفر؟ سألت سامية نفسها، ثم أمسكت عن التفكير بإيجاد جواب لتساؤلاتها، وراحت تراقب طبيبها وهو يحدّق في شاشة حاسوبه وينقر بأطراف أصابع يديْه الإثنتيْن على لوحة المفاتيح. يبدو أنه ماهرٌ جدًا في الطباعة. قالت سامية لنفسها. إنه سريع النقر على لوحة المفاتيح المتجمدة على مكتبه؛ هذه اللوحة لو أتيح لها الشكوى، لشَكت من كثرة النقر على أقفاص صدرها.
- توجّهي حالًا الى أقرب مشفى في المدينة. قال الطبيب لسامية وهو يناولها تصريحًا بذلك.
لم يبدُ الفزع على سامية عندما وجهَّها طبيبها الى المستشفى، ولم تخشَ من أنها قد تكون مريضة بمرض خبيث. كل ما كان يشغلها ويهمها هو أن تتخلص من الأوجاع التي تكاد تهشم عظام جمجمتها.
بعد كثير من الإجراءات الروتينية المعتاد عليها في المستشفيات الخاصة، وجهّت موظفة الاستقبال سامية الى غرفة الطوارئ. هناك؛ وجدت سامية أن كل سرير من الأسِّرة التي لا يزيد عددها عن العشرة في قاعة كبيرة المساحة، قد أحيط بستار من القماش الأزرق غير الشفاف من كل الجهات، وزجاجة من المعقم موضوعة على رفٍ موجود أعلى السرير، فعرفت أن المشفى قد أخذ كل احتياطاته في زمن الكورونا لحماية طواقمه الطبية بالأساس، وحماية مرضاه من الإصابة بالكورونا، هذا المرض اللعين الذي يسببه فيروس "كورونا"، والذي إن ابتلى الفرد به، عانى الصداع الشديد والسعال الجاف، وارتفعت درجة حرارة جسمه، وشعر بآلام في العضلات، وبتعب وإرهاق، وفقد حاستي التذوّق والشم. أما هؤلاء الأفراد الذين تفتقد أجسامهم الى المناعة، ولا تقوى أجسادهم على مقاومة هذا الفيروس اللعين، فقد يصابون بالتهاب رئوي، أو فشل كلوي أو كليهما معًا، الأمر الذي قد يسبب الموت لهم.
طلبت الممرضة من سامية أن تظل في سريرها بعد أن عاينها الطبيب المناوب، وأعطى تعليماته بإجراء الفحوصات المخبرية اللازمة لها، وصور الأشعة. اختارت سامية أن تجلس على كرسي قد وضع بجانب السرير بعد أن انتهت الممرضة من قياس الضغط لها وقياس درجة حرارتها، وإجراء التخطيط لعمل قلبها، وأخذ عينة من دمها لتحليلها.
ظنّت سامية أن انتظارها وجلوسها لن يطول أكثر من نصف ساعة على الأكثر، لكن ظنها قد خاب. تناولت هاتفها الذكي، دخلت صفحتها في الفيس بوك، وراحت تتابع منشورات أصدقائها دون أن تعقّب على أي منها. لم يكن لها رغبة بذلك، وتمنّت لو كان بحوزتها كتاب لتقرأه.؛ لقد اعتبرت دائما أن قراءة كتاب من اختيارها، لهو أفضل بكثير من متابعة منشورات الأصدقاء في الفيس بوك، هذه المنشورات التي لا تُدخل السكينة الى نفسها، ولا السلام الى روحها. تلك المنشورات التي لم تُشبع يومًا جوعها للثقافة والمعرفة.
كانت تنوي مغادرة مكانها لتذهب الى مكتب الأطباء الموجود في اقصى الغرفة لتستفسر عن طول انتظارها، لولا أنه قد تسلل الى سمعها صوت ناعم لفتاة تتحدث بجمل غير مفيدة ودون توقف.
فهمت سامية من إجابات أمها على أسئلة الطبيب أن ابنتها طالبة في الثانوية العامة، وتستعد للامتحانات النهائية في هذه الفترة، فتسهر الى ما بعد منتصف الليل تصارع مادة الامتحان. قطعت الفتاة كلام أمها قائلة لها:
- هل حضر والدي؟ أخبريه أنني نجحت بامتحان الكيمياء. أطلبي منه أن يحضر معه رئيس البلدية ليزورني. أطلبي منه أن يُحضر معه .... ظلت الفتاة تذكر أسماء أشخاص ذوي شأن في البلد أو أسماء مشاهير، وتطلب من أمها أن يحضروا لزيارتها، حتى أنهكها التعب فسكتت لثوان معدودات عادت بعدها تهذي بذات الجمل. سمعت سامية الأم تقول وكأنها تتحدث مع نفسها: لا أعرف ماذا حدث لها؟ وراحت تكرر عبارتها هذه وكأنها روبوت أصاب الخلل برمجته. قررت سامية إزاحة جزء من الستار الأزرق بعد أن قتلها الفضول لترى تعابير وجه الأم وهي تتحدث عن ابنتها وتجيب الطبيب عن استفساراته. أزاحته قليلًا، واهتمت بأن لا تراها الأم وهي تختلس النظر إليها. فوجئت سامية أن وجه الأم كان أصفر اللون، والغريب، أنه ازداد صُفرةً عندما سمعتها تقول: أخشى أن تكون كثرة الدراسة قد أرهقتها وسبّبت لها ما هي عليه الآن. أنا ووالدها أخبرناها منذ أن بدأت فترة الامتحانات، بأن النتائج ليست أهم لنا من سعادتها وصحتها. أرادت سامية أن تتابع اختلاس مشاهد قصة الأم وابنتها وتسمع الحكاية كلها؛ لولا أنها تنبّهت الى صوتٍ صدر عن مريضة شغلت السرير الذي على يسار سريرها. الصوت مألوف لها. إنه ذات النبرة، وذات البحّة. قالت سامية لنفسها. إنها هي، المذيعة في إحدى قنوات التلفزة المحلية حيث تطل على المشاهدين كل ليلة لتقدم برنامج "إيد بإيد". تفتتحه بنبذ العنف، وتختتمه بالدعوة الى التسامح ونبذ الطائفية والعنصرية. إنها هي ذاتها التي يوكل إليها رؤساء الجمعيات المختلفة والكثيرة في مجتمعنا العربي إدارة احتفالاتهم وأيامهم ومهرجاناتهم. وكعادتها، تلهب من على المنصة مشاعر الحضور وهي تتحدث عن رسالتها: نبذ العنف والطائفية والعنصرية، والدعوة الى التسامح.
- خيرًا فعلتِ أنكِ رجّحتِ الكفّة لصالح رنا. كادت خولة أن تحصل على اللقب. سمعت سامية المذيعة تقول لمرافقتها بينما كانتا ينتظرن نتائج الفحوصات المخبرية التي أُخذت للمذيعة.
شقّت سامية الستار الأزرق قليلًا بحيث يُمكنها مشاهدة المتحدثات، فرأت أن مرافقة المذيعة هي خبيرة تجميل معروفة في البلد.
- الصحيح أن خولة يفوق جمالها جمال رنا، ولقد استصعبتُ أن أقنع عضوًا آخر في لجنة التحكيم ليرجّح الكفّة لصالح رنا. قالت خبيرة التجميل.
- يا ستي! خبيرة تجميل مثلك بإمكانها أن تجعل من رنا أجمل الملكات. المهم أن ملكة الجمال منّا. قالت المذيعة.
وبتحول حاد، قالت المذيعة لصديقتها:
- سأستضيف الليلة في البرنامج رجل دين ليحث شبابنا على أهمية التطوع ويدعوهم الى نبذ العنصرية والعنف.... ولم تعد تسمع سامية ما تقوله المذيعة، فقد ركزت في لون وجهها الذي بدأ شديد الاصفرار.
شعرت سامية أن صداع رأسها قد ازداد. نهضت عن الكرسي، واتجهت نحو مكتب الأطباء لتستفسر عن طول انتظارها لنتائج الفحوصات التي أجريت لها، وعن علاج يخفف صداع رأسها. تفاجأت سامية وهي تسير باتجاه المكتب، باللون الأصفر الذي يكسو الوجوه، وجوه كل من مرّت بهم، مرضى، مرافقين لمرضاهم، أطباء وطبيبات، ممرضين وممرضات، عاملي وعاملات الصيانة...
ذعرت سامية، فقررت الهروب من الوجوه الصفراء، غيرت وجهتها وسارت نحو الباب، تجاوزته وخرجت.

مقالات متعلقة