الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 19:01

ودارت الأيّام من الأبيض والأسود الى الملوّن

بقلم: السفير منجد صالح

منجد صالح
نُشر: 04/11/21 07:54,  حُتلن: 09:52

في أوائل السبعينيّات من القرن الماضي عندما كنا فتيانا، جاءت "البشائر والبوادر" الأولى لوصول الكهرباء إلى بعض القرى "المحظوظة" في منطقة محافظة نابلس. صحيح أن الكهرباء في مدينة نابلس والمدن الفلسطينية "الكبيرة" كانت "تشتعل" منذ سنوات طويلة، لكن في القرى لم يكن يوجد كهرباء بعد.
تدرّجت وتدحّرجت الإنارة من الشمعة والفانوس إلى السراج والى "النهضة"، القفزة الكبيرة مع ظهور "اللوكس أبو الشمبر" في عالم الإنارة، الذي كان يُعطي إنارة تقترب من قوة إنارة المصباح الكهربائي، ولكن دائما مع شديد الحذر من أن لا يهتزّ اللوكس بقوة ويسقط الشمبر المتفحّم رمادا.
والكهرباء هذه لم تعمّ بخيرها علينا من الشركة القطرية ولا من شركة كهرباء القدس ولا من شركة كهرباء أخرى قديمة كانت أم حديثة، بل أنّ الكهرباء جاءت من مولّدات الموتورات التي كانت تعمل بالديزل، وتعمل عدة ساعات فقط، ربما من الساعة السادسة مساء وحتى منتصف الليل أو حتى ما قبل منتصف الليل بساعة، وكأنّها كهرباء تجريبية، لكنها الكهرباء الوحيدة المتوفرة، من خمس ساعات في المساء والسهرة. بعدها نعود الى لوكس ابو الشمبر أو حتى إلى السراج "أبو فتيلة".
ومع وجود جود هذا النور الساطع بحول الله وقدرته، بدأنا، في إحدى قرى محافظة نابلس، نحبو زحفاتنا الأولى، ونخطو خطواتنا الأولى، في دنيا الإطّلاع على العالم الخارجي، عبر جهاز التلفزيون الوحيد، بالابيض والاسود، الذي إقتناه أحد رجال القرية. كان يمكلك دُكّانا وملحمة، والآن يملك "السينما" الأولى والوحيدة في القرية، كونه فتح صالة بيته لجمهور المشاهدين، عدة ساعات، مقابل قرش أردني واحد لكل ليلة تلفزية.
كنّا في معظمنا فتيانا، جمهور التلفزيون، في المراحل الإبتدائية والإعدادية والثانوية في المدرسة. أمّا عن الآباء فربما لم يكونوا يهتمّون بهذا الترف الجديد الحديث، القادم عبر الأثير، عبر "أنتين" طويل مثبّت على سطح ظهر بيت صاحب الدُكّان، كون معظم رجال القرية متعوّدون، حينذاك، على أن "يسروا" من الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا وراء لقمة عيشهم ولقمة عيش عائلاتهم واطفالهم. فمصادر الرزق كانت شحيحة ومحدودة، متأتيّة موسميا من محصول زيت الزيتون ومن بعض المحاصيل الموسمية الأخرى، أو من "اللقمة المغمّسة بالدم" للعمل في "إسرائيل"، في بدايات سنوات الاحتلال الأولى.
كنّا نتحلّق حول التلفاز، أحيانا كل ليلة، وأحيانا أُخر في نهاية الأسبوع، الخميس والجمعة. لم يكن السبت بعد عندنا نهاية الأسبوع، ولا يوم عطلة لدينا، كما هو الآن. وإنّما كان السبت أول أيام الأسبوع، أول أيام الدوام في المدرارس، أول أيام الدوام الأسبوعي في المرافق العامة والخاصة. أمّا في أيّامنا هذه، فالسبت أصبح آخر أيام الأسبوع، والأحد أول أيام الأسبوع، وبالنسبة لإخواننا المسيحيين، أتباع عيسى ابن مريم، يسوع الناصري الفلسطيني، شركاؤنا في الوطن، والأصيلون الأصليّون فيه، فإن أوّل أيام الأسبوع لديهم هو يوم الإثنين، على إعتبار أن الأحد هي عطلتهم الرسمية.
إذن في بلادنا حاليا، بلادنا الجميلة، المُحتلّة الأسيرة، أرض الديانات والرسالات السماويّة، هنالك ثلاثة أيام في الأسبوع أيام نهاية أسبوع: الجمعة والسبت والأحد.
كانت محطّات التلفزيون بالأبيض والأسود التي نتابعها بشغف وحبور وسرور هي: محطة التلفزيون الأردني. محطّتي تلفزيون إسرائيل الأولى والثانية، ومحطة تلفزيون لبنان وخاصة في الليالي الصيفية الصافية المُقمرة، مع بعض التشويش أحيانا، حسب الطقس والجو وقدرة الأنتين على اللقط في الظروف "الجوّية الصعبة".
كان "مسلسل أبو سليم" الفكاهي اللبناني ملك المسلسلات اللبنانية، أبو سليم وأسعد وفهمان، "فهمان" ذو الشارب الطويل و"اللثغة" المميزة.
على التلفزيون الأردني وربما التلفزيون السوري كان ملك المسلسلات مسلسل "صح النوم" لغوّار الطوشة وحسني البورظان، (دريد لحّام ونهاد قلعي)، الذي بُثّت أولى حلقاته عام 1972.
وسنتوقّف عند هذا المسلسل وابعاده ودروسه ومعانيه بعد قليل، لكن أريد أن أقحم مباراة النزال الاسطوري عام 1971، النزال الأوّل، الذي إستمتعنا به كثيرا، بالأبيض والاسود، بين الملاكم جو فريزر والملاكم الاسطورة محمد علي كلاي.
جدير بالذكر أن كاسيوس كلاي، أو محمد علي بعد أن أشهر إسلامه، كان مسيطرا على حلبة الملاكمة منذ أن كان عمرة 22 عاما. موهبة فذّة في هذا المجال. أدخل أسلوبا جديدا وتقنيات جديدة في عالم الملاكمة، وخاصة الرقص كالفراشة على الحلبة والملاكمة بوجه مفتوح وصدر مفتوح.
لكن في أوج تألّقه وانتصاراته، أُوقِف محمد علي عن المشاركة في مباريات الملاكمة عقابا له على رفضة التجنّد والذهاب إلى الحرب في فييتنام. لهذا فقد أقصي وبقي بعيدا عن حلبات الملاكمة لمدة خمس سنوات طوال.
وحيث أن المجال لا يقبل الفراغ، فقد حلّ مكان محمد علي على رأس هرم الملاكمة الملاكم البلدوزر جو فريزر، ملاكم شرس يُلاكم كالثور الهائج، بوجه وصدر مغطّى بقبضتيه، بعكس اسلوب محمّد علي تماما. لم يخسر فريزر ملاكمة واحدة قط وكان متوّجا بطل العالم. كما لم يخسر محمد علي ملاكمة قط وكان بطل العالم، لكن مجمّدا عن العمل.
كانت مباراة "حامية الوطيس"، شرسة، جنونيّة، قاتل فيها فريزر كالوعل الهائج، وقاتل فيها محمد علي كالمايسترو. لكن النتيجة كانت فوز جو فريزر على محمد علي، بالنقاط. كان ربما فوزا مبهما، وربما بسبب الإنقطاع القسري لمحمد علي خمس سنوات عن ساحة "الوغى" للملاكمة. حزنّا يومها لتراجع محمد علي بالرغم من إستمتاعنا بالمباراة، فقد كانت أول مباراة ملاكمة نشاهدها على شاشة التلفاز بالابيض والأسود، وأوّل مباراة ملاكمة يخسر فيها محمد علي كلاي.
مسلسل صح النوم، نعود إليه "والعود أحمد"، عمل تلفزي مبدع ما زال المشاهد يستمتع به بالرغم من مرور هذه السنوات، مثله مثل مسرحية "مدرسة المشاغبين" لعادل إمام وسعيد صالح. وبالرغم من تبدّل الأحوال والأيّام، أو ربما تطابق أحداث المسلسل مع ما يجري لنا حاليا في وطننا العربي الكبير من المحيط الى الخليج، وخاصة بعد "جولة" الربيع العربي، الذي لم نستمتع بدفئه وخضرته، بل إكتوينا وما زلنا بلهيب جمراته، البادية والمستترة.
صحيح أن بطل العمل والدينمو هو غوّار الطوشة بمقالبه، الظريفة الخفيفة والثقيلة، التي لا تنتهي، لكن صحيح أيضا أن حكيم وأستاذ المسلسل هو الممثل المرحوم نهاد قلعي، أو حسني البورظان في المسلسل. وأن المُتلازمة التي كان يرددها في العمل الدرامي، وربما العديد من الناس لم يكونوا ينتبهوا إلّا لغرابتها ولظرافتها وطرافتها، ولكن ليس لمعناها وعمقها، ألا وهي متلازمة: "إذا اردنا أن نعرف ماذا يجري هنا عندنا فعلينا أن نعرف ماذا يجري في نيكاراغوا"؟؟؟!!! يبدو أن حسني البورظان كان معه حق فيما كان يقول، وأن ربط نيكارغوا بنا، بالدول العربية، في الشرق الأوسط كان ربطا ذكيا، أو على اقل تقدير، كان كأنه يقرأ الكف والطالع والأبراج، ويقرأ المستقبل، "مكشوف عنّه". سبحان الله وبحمده، مسيّر الغيوم، وعالم وعلّام الغيوب.
في ذلك الوقت، في أوائل السبعينيّات من القرن الماضي، كانت نيكاراغوا، وعاصمتها ماناغوا، "ترفل"، ترزح تحت وقع أقدام الديكتاتورية، تحت حكم الدكتاتور اناستاسيو سوموزا، على مدى 22 عاما، صنيعة الولايات المتحدة الامريكية.
كان الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت يقول عنه: "إنه ابن كلبة، لكنه – على أي حال – ابن كلبتنا، لذلك نراه نافعا".
هكذا كانت الولايات المتحدة تعامل وتتعامل مع دول أمريكا اللاتينية (أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية والمكسيك "على البيعة"). كانت تعتبرها "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة. تتعامل معها "بالهراوة والجزرة"، وخاصة "جمهوريات الموز" في أمريكا الوسطى.
ودارت الأيام، من الابيض والأسود إلى الملوّن، وخرجت معظم دول أمريكا اللاتينية من "تحت إبط" الولايات المتحدة. ولم تعد المنطقة "حديقة الولايات المتحدة الخلفية" وإنما دولا مستقلة "بحق وحقيقة" وذات سيادة، ومتقدّمه تصنّع الطائرات كما في البرازيل، التي تصنّع طائرات مدنية من طراز أمبراير، تطير ما بين عمان والقاهرة، الخطوط الملكية الأردنية، ومقاعدها مزركشة جميلة بين لون "الكراميل" والأحمر الفاقع.
فهل ستطير يوما ما طائرات مدنية من صنع عربي، من صنع دولة عربية، ما بين مطاري ساوباولو في البرازيل ومطار مونتفيديو عاصمة الاوروغواي وإلى ماناغوا عاصمة نيكاراغو؟؟؟


* السفير منجد صالح، كاتب ودبلوماسي فلسطيني

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com


مقالات متعلقة