الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 15:02

ابن المُهجّر/ بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 28/07/21 11:06,  حُتلن: 11:09

عبثا حاول ان يجذب النوم إلى عينيه، صورة ابنته صغنونته حبيبته الابدية لم تترك فضاء للنوم. كل محاولاته ولّت سدى، في الماضي كان يعرف كيف يجذب ملك الكرى إلى عينيه، صحيح ان جلبه هذا للنوم كان يحتاج الى مجهود ما، الا انه كثيرًا ما كان يوفق في مسعاه. اما في الحاضر المُر، في هذه الليلة تحديدًا، هذه الليلة المُرة كالحنظل، فقد بات جاهلًا لا يعرف "وين الله حاطه". في البداية سحبت رفيقة دربه البساط من تحت قدميه ليجد نفسه بعيدًا عن احبائه فيه، وها هي تبلغ ذروة تعذيبها له فتطرد ابنته الصغيرة من بيتهما المشترك في الامس، بيتها وحدها اليوم!!.

يرسل نظرة حائرة مُمرّرًا اياها في جميع انحاء غرفة الاستقبال. منذ وجد نفسه مُهجرًا ووحيدًا هو وكتبه وحاسوبه في شقته القصية القديمة، وهو ينام في هذه الغرفة. هجر تلك الغرفة التي كانت ايام عزها، مخصصة للنوم إلى جانب زوجته، بعد ان استقلت بشقتهما الجديدة، رافضة متابعة حياتها معه، كما هجر غرفة الاولاد، هو لا يتحمّل رؤية أسرّتهم فارغة فيها.

احساس بالاختناق يجتاح حلقه، ما الذي يحدث معه؟ ترى أيكون مجرد كابوس سيفيق منه ذات يوم ليواصل حياته مع اسرته، زوجته وابنائهما، مجددًا؟. احساسه هذا يحمله إلى الشباك المطل على الاشجار المسترخية في عتم الحديقة المحاذية لبيته، هناك يخيم ظلام صامت. يُنعم النظر لعله يرى ما يتحرك هناك في قلب الليل. ينتظر طويلًا إلا ان شيئًا لا يتحرك. الليالي السابقة الطويلة، خلال ما يربو عن الخمسة اعوام، من البعد القسري عن شقته الجديدة، واقامته في هذه القديمة، علمته ان الليل بهيم لا يفهم، وان ما ينتظره من شعاع لا يبزغ.

يعود إلى سريره. ماذا تراه يفعل؟ ما يواجهه فوق طاقته. في الماضي البعيد، يوم جاء من حي الصفافرة إلى هذه الشقة في "نتسيرت عيليت"، للاقامة فيها، احس أن امرًا جللًا سيحدث. كان حينها خائفًا على ابنه، ابن الخمسة اعوام، فربما اختطفه مجنون ما، او ربما دهسته سيارة عابرة "ولا على بالها". هو لم يُخفِ خوفه يومها على ابنته الصغير حبيبته الابدية، كانت آنذاك صغنونة تبتسم له فيبتسم العالم. بعدها مضت السنوات ليكتشف ان خوفه لم يكن في مكانه، وانه كان ينبغي ان ينتبه لان الخطر من مأمنه يأتي. لم يكن يتوقع ولا في اسوأ تخيلاته، ان يدخل عليه الخوف من باب زوجته حبيبته ورفيقة دربه خلال ثلاثة عقود من الزمن، غير أن هذا ما حصل. هو الآن، في هذا الليل، لا يريد ان يتذكر الماضي، لا يريد بالمرة، فالماضي بات وراءه، بنكباته المتلاحقة وخسائره الفادحة، وامامه حاضر يحتاج إلى المزيد من الحذر، وإلا فان الخسائر ستتواصل حتى تقضي على قلبه المتعب، وتُجهز بالتالي على وجوده، فيعود إلى ظلام جاء منه.

" لا هذا لن يكون" قال وهو يشد يده على حديد الشباك.
لا، لا يمكن ان يكون. هو سيخرج باقل ما يمكن من خسارة. الهزائم المتتالية منذ ولد، مهجرًا ابنًا لمهجر، حتى كهولته اليوم، علمته ان الشجاعة صبر ساعة، وان من يصبر اكثر تكون له الحظوة في مملكة الامل، لكن كيف يصبر وقد عَلم صباح اليوم، ان ابنته الصغنونة محبوبته الابدية، تقيم عند اختها، بعد ان طردتها والدتها من بيتها؟ كيف سيصبر وهو لا يعرف ماذا يفعل... كان آخر ما توقعه، حين تلفن لابنته الكبرى صباح اليوم، أن تسأله عمّا اذا كان يريد ان يطمئن على شقيقتها الصغرى. لهذا كاد يهيئ نفسه لنكبة جديدة، وسأل ماذا بها اختك؟ فردت ابنته الكبرى، اعتقدت انك تعرف ان امي طردتها من البيت وهي عندي في بيتي منذ يومين. عندها فقط شعر بأنفاسه تعود إلى انفه وفمه، غير انه ما ان أعاد سماعة التلفون إلى مكانها حتى راح يتساءل عمّا يمكنه ان يفعل لإعادة ابنته إلى بيتها. في نهاية تساؤلاته كان لا بد من ان يقرر: بما انه ليس في البيت ولا يستطيع ان يقترب منه جراء تهديدات قاهرته.. رفيقة دربه بالشرطة والثبور وعظائم الامور، فانه يترتب عليه ان يتوجّه إلى واحد من اقاربه، لكن من يمكن ان يكون هذا القريب؟ كلهم ماتوا لم يتبق منهم الا الاضعف، فهل يتوجه إليه؟ اجل ليفعل وماذا بإمكانه ان ينتظر؟ الغريق لا ينتظر ويفضل ان يتعلق بحبال الهوا. هكذا وجد نفسه يندفع في ساعات المساء باتجاه بيت قريب له. الطريق إلى هناك كانت طويلة، فقد كان يعرف تمام المعرفة ان احدًا لن يقدم اليه يد المساعدة، وانه سيبقى غارقًا في ظلامه إلى ما شاء الله، او حتى تحصل معجزة في زمن لا يعرف المعجزات ولا يريد، ومع هذا غذ الخطى باتجاه بيت قريبه. اخيرًا وصل إلى هناك.. توقف قبالة باب البيت المغلق، كان الباب يغرق في عتمته. لا، هو لن يطرق هذا الباب، فقد طرقه اكثر من مرة في السابق ولم يفتح له، فهل يضيف إلى تلك المرات مرة اخرى جديدة تضاف إلى دفتر هزائمه؟ ليكن ما يكون. نعم ليُضف هزيمة اخرى بماذا سيضره هذا، وهو اذا لم يربح لن يخسر، وتقدم من الباب. رفع يده لطرقه، غير انه احس باسترخاء يسري في يده فانزلها رويدًا رويدًا ومضى في عتمته، متجاوزا ذلك الباب، في محاولة للبحث عن باب آخر، ومضى في ظلامه، مضى يغذ المسير. الابواب كلها مغلقة امامه فإلي أين يمضي؟ إلى أين؟ وانطلق في طريقه يمشي بسبعة ارجل، بعشرة، بألف.. بآلاف الارجل، إلى أن وصل إلى باب بيته، استخرج مفتاحه من جيبه وفتح بابه. هذا هو الباب الوحيد الذي يفتح له. كل الابواب الاخرى مغلقة "محدا وراها فاضي لحدا ولتمت انت في شجاك وحزنك". قال لنفسه وهو يردُّ بابَ شقته وراءه، ويتوجه إلى سريره في غرفة الاستقبال ليستلقى هناك، بانتظارِ وسنٍ لا يأتي منذ اكثر من خمسة اعوام هي تاريخ تهجيره الثاني.
***
يرفع جسمه من على سريره في غرفة الاستقبال، يشعر بتثاقل ما، ينبذ ما يشعر به، يتوجّه نحو باب شقته القديمة، يخرج إلى الشارع. لقد اضمر امرًا، هو لا يمكنه ان يقبل بهكذا وضع، وبات من الواضح له على الاقل انه يوجد امامه واحد من امرين، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا، هو لا يمكن ان يُسلّم بالخسارة كاملة، وهو يعي تمام الوعي انه ما زال امامه متسع من الوقت للمناورة، وحتى للمغامرة، وانطلق في طريقه راكضًا مثل سيف، كان الطريق امامه طويلًا ممتدًا بلا نهاية، وكان يركض غير عابئ بالظلام امامه، كان يريد ان يعمل اي شيء من اجل اعادة ابنته صغنونته محبوبته الابدية إلى بيتها. كان يركض ويركض وإلى جانبه.. يركض الليل.
 

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com   


مقالات متعلقة