الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 11:01

ذكريــــــات لا مذكــــــــــرات/ بقلم: الشيخ كامل ريان

الشيخ كامل ريان
نُشر: 15/07/18 11:55,  حُتلن: 15:50

انتهى العام الدراسي، وبدأت الإجازة الصيفية الطويلة.. بدأت انا وزوجتي التجهز للعودة إلى قريتي الصغيرة كفر برا.. لقد انتشرت اخبار الكشف عن تنظيم "أسرة الجهاد" واعتقال عدد من زملائي المعلمين بتهمة العضوية في التنظيم المسلح، انتشار النار في الهشيم.. عرفنا ان نحوا من سبعين عضوا في الحركة الإسلامية قد تم اعتقالهم بنفس التهم، وأن قرارا قضائيا صدر باعتقالهم حتى نهاية الاجراءات القانونية.. كانت التفاصيل كثيرة حول ما قيل إنها كمياتٌ من السلاح قد تم ضبطها، وخططٌ لتنفيذ عمليات لضرب الاقتصاد الإسرائيلي في منطقة النقب على وجه الخصوص..

محنــــة ومنحـــــة........

بما ان مسرح عمليات التنظيم في الأساس كان منطقة النقب، فقد كانت خشيتنا كبيرة من أن تُوَجَّهَ الينا أصابع الاتهام.. انتظرنا بقلق شديد ما ستنجلي عنه مرحلة التحقيق، وما ستأتي به الأشهر القادمة من تطورات، ومآلات ذلك على مجمل العمل الإسلامي ونشاط الحركة الاسلامية الذي كان وصل درجة من القوة والامتداد لا يمكن الاستهانة به.. بعد نحو شهرين بدأت المحاكم تعقد جلساتها للنظر في لوائح الاتهام الموجهة إلى المعتقلين وعلى رأسهم فضيلة الشيخ عبدالله نمر درويش رئيس الحركة الإسلامية، والذي وُجِّهَتْ له تهمة "الرئاسة الروحية للتنظيم"...

الحقيقة أنني لم أجد ميلا ولا رغبة في حضور جلسات المحاكم التي تناولت القضية. إلا أن عملي الدعوي لم يتأثر أبدا بما كان يجري، فقد بقي قويا وحماسيا بنفس الدرجة مع شيئ من الحذر لدواعي الظرفية التي عشناها في تلك المرحلة من تاريخ الحركة الإسلامية.. ترك اعتقال نحو سبعين من قيادة الحركة الإسلامية وكوادرها من الصفين الأول والثاني، فراغا كان لا بد من شغله لضمان استمرار عمل الحركة بالرغم من المحنة الجدية التي تعرضت اليها.. كان الشيخ إبراهيم عبدالله صرصور - والذي شغل فيما بعد منصب رئيس المجلس المحلي في كفر قاسم (1999-1989)، ورئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني (2010-1998)، ورئيس القائمة العربية الموحدة وعضو البرلمان (2015-2006) - هو الذي ملأ هذا الفراغ، وأدار مع إخوةٍ آخرين من مختلف المناطق، دفة الحركة الإسلامية في ذلك المنعطف الخطير من تاريخها..

كان المعتقلون الذين صدرت في حقهم احكام بالسجن لسنوات تراوحت بين العامين والخمسة عشر عاما، والذين تمت إقالتهم فيما بعد من عملهم في سلك التعليم، من النخب المجتمعية المرموقة الذين حظوا بالاحترام والتقدير لما بذلوه من جهود جبارة في خدمة دينهم ومجتمعهم ووطنهم وشعبهم.. كان لاعتقالهم الأثر الكبير في تعزيز شعبيتهم في أوساط الجماهير، وإن لم يتم التعبير عن ذلك بشكل واضح وظاهر.. كنا نحس بذلك من خلال تعاملنا من قطاعات واسعة من الناس في مختلف المناطق، خصوصا بعدما هدأت النفوس وظهرت الحقائق، وانجلت الصورة وصدرت الاحكام. كان الشيخ عبدالحكيم سمارة، من بين من تم اعتقالهم في تلك المرحلة، إلا انه تم الافراج عنه بعد ثلاثة أيام فقط، حيث لم يجد المحققون ما يربطه بالتنظيم من قريب او بعيد.. حدثني بعد الافراج عنه بقصةٍ أشبه بالدعابة حول ملابسات اعتقاله والافراج عنه، مؤكدا لي على أن "مقاسات قدمه" الكبيرة كانت السبب - بعد إرادة الله سبحانه طبعا – في إنقاذه من مأزق الاعتقال وعذاب أقبية التحقيق.. القصة تقول ان فريد أبو مخ (أبو عزام) قائد تنظيم "أسرة الجهاد" وهو من بلدة باقة الغربية، كان التقى بالشيخ سمارة، ودار بينهما حديث قال خلاله (أبو عزام): " لك قدم كبيرة جدا يا شيخ عبدالحكيم، وانصحك ألا تشارك في أي عمل من شأنه ان يعرضك للمساءلة الأمنية في يوم من الأيام، فقدمك سوف تفضحك!"... اعتبر الشيخ عبدالحكيم ما سمعه "نكتة" او "دعابة" لا اكثر، ولم يكن يعرف ما يدور من وراء الكواليس، فكانت المفاجأة صادمة بعد ان انكشف التنظيم وبدأت المحاكمات.. تحولت هذه القصة إلى نكتة تداولها الكثيرون، وأصبحت محل تندر، ولطالما أُشير إلى الشيخ عبدالحكيم سمارة بالقول: "هذا الذي انقذته قدمه من الاعتقال!"...

منعطــــف حـــــاد، لكنه هـــادئ..

بعد أن تم الافراج عن الشيخ عبدالحكيم سمارة، استمر عملنا الدعوي بكل قوة، كأنما أردنا ان نبعث برسالة قوية وواضحة إلى من راهنوا على موت الحركة الاسلامية او على الأقل تراجعها كثيرا، سواء كانوا جهات رسمية حكومية، او جهات داخلية عربية رأوا في الحركة الإسلامية منافسا عنيدا لا بأس من التخلص منه ولو على يد من تقول انه عدوها اللدود، أعني الحكومة وأذرعها المختلفة!! كنت انا والشيخ إبراهيم عبدالله والشيخ عبدالحكيم سمارة والشيخ هاشم عبدالرحمن، من الشخصيات التي نشطت في مجال الدعوة قطريا وبشكل بارز وحاسم في تلك المرحلة..

استمرت جلسات المحاكم بالانعقاد في ظل أجواء متوترة، وردود فعل عدائية بشكل سافر على مستوى الرأي العام اليهودي.. توحد الموقف الرسمي والشعبي اليهودي مع توجه الاعلام والصحافة في اتهامه للجماهير العربية ب "الخيانة"، "خيانة الخبز والملح!!!"، و "خيانة اليد اليهودية الممدودة بالخير واليمن واللبن والعسل!!".. هكذا بكل وقاحة وصفاقة، وهو الأسلوب المتبع – مع الأسف - إلى هذه اللحظة..

كما قلت انتهت المحاكمات بإصدار احكام ضد المعتقلين تراوحت بين العامين والخمسة عشر عاما، بما فيهم رئيس الحركة الإسلامية فضيلة الشيخ عبدالله درويش - رحمه الله - الذي صدر في حقه حكم بالسجن خمس سنوات، تم تخفيفها فيما بعد الى ثلاث سنوات ونصف السنة في إطار دعوى استئناف ضد الحكم الأول.. اما رئيس التنظيم (فريد أبو مخ/أبو عزام)، فقد صدر بحقه حكمٌ بالسجن خمسة عشر عاما، إلا انه تم الافراج عنه بعد أقل من خمس سنوات وذلك في إطار صفقة تبادل الاسرى المعروفة ب "صفقة جبريل/الجليل" بتاريخ 20 أيار 1985.

محاولات لتجـــاوز الأزمــــة..

حرصت كوادر الحركة الإسلامية - الا القليل النادر - على الا تجعل موضوع "اسرة الجهاد" محل نقاش او جدال او خلاف، خصوصا في تلك المرحلة المبكرة من الاعتقالات والمحاكمات التي احتاجت من الجميع إلى وقفة قوية لدعم أُسَرِ المعتقلين وتمويل طواقم المحامين، والحرص على سلامة الصف الداخلي واستمرار العمل الدعوي، متجاوزين كل التحديات والمخاطر والتهديدات.. كما حرصت الحركة الإسلامية على إلا توجه أي اتهام مهما كان نوعه لأي من كوادرها اتفق مع سياساتها او اختلف، وعملت على رص الصفوف وتحديد الأولويات بناء على ما تتطلبه المرحلة، وإرجاء المراجعات حول الموضوع إلى ان يحين وقتها المناسب في المستقبل..

الحق، والحق أقول، أن الحركة الإسلامية في ظل "قيادتها المؤقتة" في ذلك الوقت، قد نجحت وإلى حد بعيد في تحقيق الهدفين المذكورين، فامتصت أولا، ضربة الاعتقالات والمحاكمات وتجاوزتها بسلام من خلال تغطيتها لكل الملفات ذات العلاقة بالقضية: محامين، أسر المعتقلين، الزيارات في السجون.. الخ.. واستعادت التوازن المطلوب في صفوف الحركة الإسلامية التي أصابها بعض الاضطراب بسبب وقع المفاجأة وقلة الخبرة في مواجهة مثل هذه الظروف، مستأنفة عملها وفي جميع الفروع بكل قوة، الأمر الذي ساهم بشكل حاسم في التعبئة المعنوية لكوادرها، والزج بهم في ميدان العمل والنشاط اليومي المحلي واللوائي والقطري، مما كان له أكبر الأثر في تجاوز الأزمة وآثارها سريعا..

بداية سنة دراسية جديدة: المفاجأة الصادمة...

في الأول من شهر أيلول من العام 1981، جهزت انا وزوجني حقائبنا وانطلقنا إلى منطقة النقب استعدادا لسنة دراسية جديدة، بعد ان كنت قمت قبل هذا الموعد بأسبوع بكل الترتيبات ذات العلاقة بالسكن في مدينة بئر السبع، وغيرها من الترتيبات الضرورية.. وصلنا مباشرة في 1.9.1981 إلى مدارسنا صباحا وقبل بداية الدوام.. كنا مفعمين بالحيوية والنشاط، ومستعدين لسنة جديدة كان أملنا كبيرا في ان نحولها إلى سنة دراسية مميزة ونوعية..

كانت الخطط التي جرى وضعها من وراء الكواليس في المكاتب الحكومية المختصة خلال الاجازة الصيفية، مختلفة تماما عن الخطط التي كنا وضعناها للسنة الدراسية الجديدة.. كان ذلك الصباح بداية مرحلة هزتنا من الأعماق لم تنته حتى يومنا هذا..

نزلت زوجتي في منطقة "الاعسم" حيث المدرسة التي تعمل بها، أما انا فأكملت إلى مدرسة "أبو قرينات".. دخلت غرفة المدير محيِّيا: " صباح الخير".. نظر الي المدير مستغربا، ثم قال: " لماذا جئت إلى هنا؟!".. لم استوعب السؤال المفاجئ وغير المتوقع، فقلت ببراءة: "جئت لأقوم بعملي.. انا أدرس هنا"... نظر إلي المدير لثواني معدودة، ثم وجه نظره نحو أوراق كانت امامه على طاولته، ثم عاد ونظر إليَّ قائلا: " اسمك لم يرد في قائمة المعلمين في مدرستي.. خذ انظر بنفسك في القائمة التي أرسلتها الوزارة الي.".. وقفت صامتا.. لم أدر ما أقول، ولا ما أفعل، ولا ما اجيب المدير.. كسر المدير حاجز الصمت، قائلا: " عليك ان تذهب فورا وسريعا إلى مفتش المعارف (

​ع.خ)، ومكتبه في فرع الوزارة بمدينة بئر السبع. اعتقد ان لديه إجابات عن كل تساؤلاتك، ويستطيع ان يفيدك أكثر مني."..
كنت مصدوما تماما.. تركت مكتب مدير المدرسة وتوجهت على الفور إلى مكتب مفتش المعارف في مدينة بئر السبع. لم أفكر في تلك اللحظات بزوجتي، فقد كنت على يقين أن المشكلة التي تواجهني، هي مشكلتي أنا، واستبعدت جدا ان تكون زوجتي قد تعرضت لنفس المشكلة التي واجهتني.. افترضت ان يوم الدراسة الأول لزوجتي سيكون عاديا جدا.. لذلك لم اتصل بها، وانشغلت بمشكلتي..

وصلت إلى مكتب المفتش 
​ع.خ.. طرقت الباب.. سأل: "من أنت؟".. قلت له اسمي، فقال لي: "تفضل يا ابني.".. كان يجلس على طاولته ومسدسه الشخصي على الطاولة امامه.. يبدو ان هذا هو أسلوبه في استقبال المعلمين المراجعين.. لا أدري لماذا تصرف بهذه الطريقة؟! من الواضح أن المسدس كان مرخصا.. لم يكن عندي شك في ذلك.. يتبع..........
 

قيادي في الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

الرئيس السابق ل - "جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات الإسلامية" في الداخل الفلسطيني

كفربرا

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

 

مقالات متعلقة