الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 06:01

ديوان همس الرصيف للشاعر احمد طه..عزف عذب على أوتار الكلمات/ بقلم: مصطفى عبد الفتاح

مصطفى عبد الفتاح
نُشر: 30/04/18 12:21,  حُتلن: 08:20

تحية الى كل الزملاء والأصدقاء في الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيين
تحية للمجلس المحلي ولرئيس المجلس على رعايتهم لهذه الأمسية الأدبية
تحية الى الرفاق والأصدقاء والضيوف الأعزاء الذين نتشرف بحضورهم ومشاركتهم.
الاخوات والاخوة الأعزاء.
لستُ محايدًا في الحديثِ عن أبي صالحٍ، الذي يَربِطُني بهِ تاريخٌ نِضاليٌ مُشرِّفٌ، وأيامُ صداقةٍ لا تُنسى ولا يمحوها الزمانُ، فمعًا، بَنينا وصُنّا تاريخًا ناصعًا لقَريتِنا ووقفنا مع شعبِنا في قضاياهُ المصيريَّة، تجادلنا، اختلفنا أحيانا ولكننا اتَّفقنا دائمًا في القضايا المصيريَّةِ التي تهمُّنا جميعًا تهمُّ قريتِنا التي كانت أقربُ الينا من حبل الوريد، فأردنا لأهلِنا ولشعبِنا حياةَ عزٍّ وكرامةٍ، نجحنا هنا وأخفقنا هُناك ولكننا لم نيأس.
ووسط الطريق نَسَينا أنفُسَنا او تناسينا، ركضنا بقوةٍ نحو الهدَفِ الأسمى، الا وهو بناءُ الوطن والانسان، الذي تمثَّل في بناء قريتنا التي أَعطيناها زهرةَ الشَّباب فأعطتنا الاملَ الواعدِ والمستقبلَ الباهرِ لنا ولأبنائِنا، كان وما زالَ حُبُ الوطنِ رفيقَنا والاملُ صديقَنا، والمستقبلُ طريقَنا. وفي كلِّ معاركِنا لم نسمح لجذوةِ الاملِ ان تنطفئَ، بل زِدناها اشتعلًا حتى لو كنَّا نحن وقودًا لها.
بحثتُ في ثنايا الذاكرةِ عن سببِ تأخُرِ شاعِرُنا، احمد طه، في ايقادِ شُعلةَ الحروفِ المضيئةِ، والغوصِ في بحورِ الشِّعرِ الواسِعَةِ، فوجدْتَني أَبحثُ عن ذاتي التَّائهةِ مع ذاتِه، في زمنٍ تاهَ فيه الضَّميرُ وانقلَبتْ المعاييرُ وضَاعت التعابيرُ. ولم أجد ابلغَ من بيتِ شعرٍ نظمَهُ محمود سامي البارودي حينَ قال:
فَيا رُبَّما أَخْلَى من السَّبق اوَّلٌ وبدَّ الجيادَ السَّابقاتِ أخيرُ.
لم أجدْ عندي او عندَهُ سببا لتأخرِنا عن ركبِ الادبِ غيرَ عَتمَةَ الطَّريقِ، فأشعَلنا شمعة الأّدبِ التي كانت جَذوتُها تزدادُ اتقادًا في أَعماقِنا كلَّما تاهت بنا الطريقُ، لتُضيءَ لنا الدَّربَ وتوقظَ الاحاسيسَ التي دَفنتها السياسةُ في صَحرائِها الغائِرةِ في قُلوبِنا، عندما حملنا رايةَ الكِفاحِ وانطلَقنا لنُشعِلَ النُّورَ في غَياهبِ الدَّيجورِ مع رفاقِنا.


هذا هو الديوانُ الثاني للشاعرِ الرَّقيقِ احمد صالح طه ابنُ كوكب أبو الهيجاء، يقعُ الديوانُ في مئةِ صفحةٍ من الحجمِ المُتوسِّطِ، بغلافٍ جميلٍ مُعبرٍ للفنانةِ نيفين فتحي سعيد وطباعةٍ انيقة.
قدَّمَ له الشَّاعرُ والناقِدُ المُرهَفُ الحسِّ، غزيرُ الفكرِ والإنتاجِ الصَّديقُ المٌتألِّقُ دائما صالح كناعنه اختزلَ فيهِ رأيهُ ونظرَتَهُ لشعرِ ابي صالح بجملةٍ واحدةٍ أوْجزَ فيها فأبدَع الا وهيَ عنوانُ مُقدمتِهِ للديوانِ " عودةٌ إلى الشِّعرِ النابضِ أَصالةً، روعةً، جزالةً وموسيقى".
وإذا كان الشاعرُ احمد طه في ديوانِهِ الأوَّلِ الذي أصدرَهٌ عام 2012 مٌحلِّقًا "على متنِ سحابةٍ"، ينظرُ إلى العالمِ من العلياءِ ليقولَ رأيَهُ في كلِّ ما يراهُ ويُحِسُه ويشعٌرَه غير آبهٍ بما حولهُ، وقد كتبتُ له حينها مُقدمةً قلتُ فيها: " يُحلِّقُ الشَّاعرُ في فضاءاتٍ عديدةٍ متنوعةٍ من مكانٍ إلى اخر ومن زمانٍ إلى زمانٍ بلا قيودَ او حواجز ".
ها هو اليوم يقفُ على الرَّصيفِ رصيفُ الحياةِ ثابتُ الخُطى قويُّ العزمِ شديدَ الإصرارِ على مواصلةِ الطريقِ، ينظرُ إلى العالمِ بحكمةِ العارِفِ المجرِّب، يهمسُ في اذنِ العالمِ عن ذلكَ الظُّلمِ الذي يلحقُ بالرَّصيف من دوسِ النِّعال فما تزيدَهُ إلا جمالًا وصقلًا بلوريًا لا يعرفُ كنههُ الا من عاش ظُلمَ الحياةِ وقهرَ الغزاةِ المارينَ بنعالهِم على رصيفِ الحياة اراهُ يقول:
"نِعالٌ طَهَّرت وَجه الرَّصيف
بِصَفعٍ فاقَ ما يُجدي الغَسيل
وَتلطُمُهُ نِعالٌ دونَ آهٍ
فَيَبلَى النَّعلُ وهُو لا يزول"
هذا هو أبو صالح يريدُنا ان نَصمِدَ وأَن نبقى في وطنِنا ونتحمَّلُ كلَّ الآلامِ وكلَّ المِحَنِ، فهي كفيلةٌ بصقلِ حياتَنا وتجميلِ ارواحَنا وتخليصَنا من براثِن المجهولِ.
في ديوانِه الجديدِ يبدعُ أبو صالح في قطفِ زهرةً من كلِّ بستانٍ، وفكرةً من كلِّ موقفٍ، فيجمعُ حديقةً زاخرةً بالحبِ والجمالِ والحكمةِ والموعظةِ، زاخرةً بالشعرِ الجميلِ الرقراقِ الذي يدخلُ القلبَ بدون استئذانٍ فيدغدغُ أوتارَ العقلِ قبلَ ان يعزفَ القلبُ الحانة.
تمامًا كما هي نظرتُهُ إلى الحياةِ، يُريدُ ان يكونَ كلَّ شيءٍ فيها كاملًا، ينظرُ اليها بعينٍ فاحصةٍ متأملةٍ، فتراهُ يغضبُ، وييأسُ، يتعبُ ويقاومُ، ينتقدُ بحرقةٍ ويحاولُ ان يقيِّمَ الاعوجاجَ، يكفُرُ بالمُسلَّماتِ، ويلعنُ المُعطًياتِ، يحتَضنُ شعبَهُ وارضَهُ ووطنَهُ، ويطردُ الجهلَ والجهلاء ويحاولُ ان يردعَ الغُرباء.
فما أَروعَكَ يا صديقي وأَنت تشدو في قصيدَتِك الأولى التي تبحثُ فيها عن ميزةٍ نفتخرُ بها كعربٍ فلا تجدُ الا البؤسَ، فتقولُ يائسًا من الحالِ العربيِّ البائسِ: "ص 6"
أّتقصَّى سُنبلةً،
تتدلَّى مُثقلةً
في الحقولِ العربيةِ
لم أجد الا اجيجًا عاصفًا
من المحيطِ للخليجِ
وعجيجًا للحجيجِ
المُحرِمينَ بالغيومِ القاحلةِ.
وفي قصيدةِ هاربٌ من الحياةِ يشدو بحالةِ يأسٍ وتعبٍ من محيطِهِ المليءِ بالتلوُّنِ والهرطَقةِ الدينيَّةِ والتستُّر وراءَ الغيبياتِ: "ص 9 "
حِملُ الحَياةِ مُستساغٌ بالضَّنى
واليأسُ كابوسُ الحياةِ النَّائبة.
وكأنهُ يعودُ بعدَ جهدٍ إلى ذاتِهِ إلى نفسِهِ وروحِهِ المُعذَّبةِ يبحثُ في خباياها عن الصدقِ والامنِ والأمانِ الذي يفتقدهُ في النَّاس وفي تصرفاتهِم فلا يُصدِّقُ غير لغةِ العيونِ التي تشي بأسرارِ الخلقِ رغمًا عنهُم وفي بحثِه عن الصدقِ في لغةِ العيون يقول: " ص 11 ".
إِقرأْ عيوني لا تسلني من جَفا
العينُ أَوفى من لساني والشَّفة
العينُ تجني ما تراهُ مُبهِجًا
فيها يحسُّ المَرأُ صِدقَ العاطفَة.
ويحلّقُ شاعرُنا من جديدٍ وهو يزرعُ الحكمةَ في نفوسِ وقلوبِ الأبناءِ، يحذرهُم يوجههُم، يدلُّهم عن غِنى النَّفسِ وغِنى الروحِ، يدلُهم على كنزِ القناعَةِ، وكأنَّه يبكي حياةَ المادةِ التي وصلنا اليها وتركنا حياةَ الكَرَمِ والعطاءِ وحياةَ غنى النفسِ، وفي وصاياهُ لابنه ليتعلَّمَ اسرار الحياةِ يقول له بلغةِ العارف: " ص 16 "
فاخر بزهرٍ قد ذوى مستمطرًا
ان مصَّ ماءكَ ينتصب
يَحيى بعُمرِهِ مزهرًا والطِّيبُ لَك.
أَنت الغنيُّ بالقناعَةِ فانتصِب
انَّ الغِنى بالقَناعَة أثمنُ
ويبلغُ الشاعرُ مرحلةً من الياسِ، تجعلُهُ يصفُ الحياةَ بالغابة فيها القويُ يأكلُ الضعيفَ، هكذا نعيشُ مشاعرَ الشاعرِ في تقلُّباتها وفي تخبطاتها وفي روحه المعذبة التي لا تهدأ. فنراهُ يقول في قصيدة الحياة غابة "ص 26 "
ان الحياةَ غابةً قد ارفدت
دم الغزال يشتهي الفُراسِنُ
يذوي الفقير والغنيُّ جائرٌ
اذ كلما استقصى الرَّدى يُفرعن.
هكذا يستمرُ الشاعرُ في طرحِ مواضيعَهُ التي تشغلُ باله وتقُضُّ مضجعه، فتارةً تراه فرحًا سعيدًا يتغنَّى بمحبوبته ويرسُم خيوطَ الغزلِ ابياتً من الشعر ما خطَّها قلمٌ، وتارةً يجلسُ حزينًا على اطلالِ مدينةٍ من مدنِ فلسطينَ ليُقلِّبَ صفحاتِ تاريخها ويجلسُ على شاطِئها علَّهُ يٌخبِرهُ مكنوناتِ عشقِه للوطَن. او يُبحرَ في قضايا امتنا العربية في سوريا والعراق واليمن، فيبكي على واقعٍ قد مزقنا اربا.
ولا ينسى في هذا البحرِ من الأفكارِ قريتَه التي أحبها وقدَّم لها زهرة شبابه من اجل تطويرها وبنائها كما تستحق المحبوبة من حبيبها. فيصفُها بمنارة الجليل ويقول ص 42 "
ضوء النجوم قد ينوء في السما
والنور منك سرمدي في دمي.
وينهي شاعرنا ديوانه في وصف لغتنا العربية امُّ اللغات، وأجملُها، فيقول فيها: "ص 88 "
شَمَخَت عروسًا للورى وتلالات
وهي المُحيطُ بجوفِهِ دُرَرٌ زَهَت.
بقي ان نقول لشاعرنا مباركٌ اصدارُك الجديد نتمنى لك التوفيق ونحن بانتظار المزيد.

(المداخلة التي ألقيت في أمسية اشهار ديوان الشاعر احمد طه "همس الرصيف" في كوكب أبو الهيجاء 17.2.2018)

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة