الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 08:01

الذين عبروا من هنا والذين كانوا هنا ورَّحلوا!/ بقلم: د.شكري الهزَّيل

د.شكري الهزَّيل
نُشر: 03/03/18 07:46,  حُتلن: 09:46

د.شكري الهزَّيل في مقاله:

لم يكن ببالي ولا بخاطري ان ينزف قلمي كل هذه الذاكرة المزدحمة التي حضرت فجأة بكل تفاصيلها بعد غياب طويل في غياهب الايام والسنين

حمولة زمن وحمولة صناديق ذكريات من بلاد لها عبق ورائحة صناديق برتقال يافا يوم كانت يافا يافا تلقي بتحاياها على اخواتها على شواطئ عكا وحيفا واسدود وعسقلان

عقدين من الزمن او اكثر وانا متمترس خلف الطاولة حاملا قلمي وكأنة مدفع رشاش يطلق وابل من طلقات الحروف والكلمات على كل من اعترض طريقي او تقدم من متراسي محاولا الاطاحة بقلمي او اخذة اسيرا حيث سرايا العدو واعداء الوطن من ابناء جلدتنا من من خانتهم الذاكرة وخانوا وجدانهم واخذتهم الدنيا اسرى في اقفاص ملذاتها ومقاماتها ودروب متاهاتها لينحرفوا نحو مفاهيم وقيم الاعداء.. وظيفة.. راتب.. مركبة.. بيت.. نسيوا اوطانهم وهم في وسطها يعيشون وعلى ترابها يخطو وخَّطو خطواتهم الاولى على تراب وطن وتحت سقف مُحتَّل ووسط واقع مٌختَّل.. محمد يرمي بالوطن جانبا ويتناول شوال طحين كعنوان اول واخر لحياتة وزينب تعجن العجين بيدين ورصغين غارقين لامَّس فيها الطحين والعجين سوارتها الاخيرة من مصاغ احتاطت بة لصعاب الايام وسود الليالي اللتي سادت اجواءها منذ ليلتها الاولى في قفصها الذهبي الذي لم يكن سوا شئ مطلي باللون الذهبي ولا علاقة لة بالذهب حيث قال لها محمد ان المصاغ دين في رقبتة ولابد ان يرجعة لاهلة قطعة قطعة من الخاتم والحَّلق الاول وحتى السوارة الاخيرة لتقول زينب في سرها والاثاث وكل هذا الكشكول والزركشة حتى اخر " اجٍر..قدم" كرسي... يارب سترك شو هالوقعه السودة.. من اول ليلة سودة وياساتر من تاليات الليالي.. ماذا تبقى وسيتبقى لي...الوطن... الوطن يا زينب.. الوطن كنز لا ينضب وقلب ينبض الى ابد الابدين... تعيش و تموت الناس ويبقى الوطن حيا لا يموت... الفقراء والاغنياء وحتى الانبياء يموتون وتبقى الاوطان حية ابية وعصية على الموت...حياتها تتناقلها الاجيال... جيل يرحل.. وجيل يولد... حياة وطن يحمل في صلبة نواة حياة شعب وحياة تراب وتربة تحمل في رحمها جنين وجنين و كل هذا الكم الهائل من الحنين ل فلسطين...تكمش زينب سوارتها وتخرجها من رصغها وتغسل عنها الطحين والعجين لتعود ذهب "عصملي" صافيا باهيا ساطعا مثل محيا شمس فلسطين..تشرق الشمس وتغرب وفي وسط قرصها قَّدر محسوم واسم منحوت.. تغني زينب ويطرب محمد.. لكتب اسمك يا بلادي ع الشمس اللي ما بتغيب..ليك.. حتى لوغابت..اسم بلادي باقي وسط القرص..شرقا وغربا.. شروقا وغروبا..لكان هيك اصح وصحيح.. لكتب اسمك يا بلادي ع الشمس اللي بتغيب وما بتغيب..!!

حمولة زمن وحمولة صناديق ذكريات من بلاد لها عبق ورائحة صناديق برتقال يافا يوم كانت يافا يافا تلقي بتحاياها على اخواتها على شواطئ عكا وحيفا واسدود وعسقلان، وغزة هاشم تَّغزل غزلها على انغام تلاطم الامواج حيث النورس يغطي السماء ويملا الاجواء بتغريدات الحرية والحياة، والناس تملأ الاسواق ورائحة عبق توابل التجار تملا المكان والعتالون باكتافهم وعرباتهم يحملون احمال وحمولة الزبون حيث المراكب والعربات والبهائم والقوافل التي ستحملهم الى قراهم وديارهم...صفقات وقت العصر واخر النهار وما قبل الغروب وحلول الظلام ووقت اذان المغرب تُعقد تحت نفثات التتن والتامباك قبل ان يغزو الظلام المكان ويستعد التجار ليوم سوق اخر في فلسطين...سوق الاثنين ..سوق الثلاثاء.. سوق الاربعاء... سوق الخميس... سوق الجمعه..سوق السبت.. ايام اسواق متعارف عليها تشق جغرافيا فلسطين..سوق عكا.. سوق الناصرة..سوق غزة...سوق الخليل.. سوق القدس.. سوق اسدود.. سوق بئر السبع..اسواق تاخذ اسماءها من ايام الاسبوع ويعرف الناس مكانها اللتي تعم كل مناطق الوطن العامر باهلة وناسة في كل قرية ومدينة وسهل ووادي ومضارب تفرد اجنحتها على كامل الصحراء وكامل تراب بلاد شعبها...توتة الدار.. تينة الدار..عنبة الدار..حوش الدار..حاكورة الليمون والتفاح والرمان.. تنك الزيتون..علب الزعتر...دار الطابون وزلط الصوان..طريق القدس.. طريق يافا..طريق حيفا... طريق السبع..ع يمينك.. البحر... اسدود... عسقلان... ايام زمان..ع طريقك وشمالك.. اللد.. الرملة.. اللد قبال الرملة..اللد اهلها والرملة عمامها... جرة وغطاها...خليلي ياعنب... تفاح المرج...تين الساحل..برتقال يافا...ثوب غزاوي... ثوب سبعاوي...ثوب ضفاوي..قمباز سبعاوي.. وطن مطرز على عرض وطول تاريخ حياة شعب..!!

لم يكن ببالي ولا بخاطري ان ينزف قلمي كل هذه الذاكرة المزدحمة التي حضرت فجأة بكل تفاصيلها بعد غياب طويل في غياهب الايام والسنين...ايام دلعونة الجميلة وخبيزة الربيع الفلسطيني وقوافل الطَّحانين العابرين مع طلوع فجر "الرماس" نحو " البابور" المطحنة ممتطين الجمال والخيل والحمير المحملة بحمولات القمح والشعير المعدة للطحن.. يذهبون بالحبوب ويعودون بطحين المونة والخير... يقفون في الدور دون "شرطة" كل ينتظر دورة في الطَّحن والطحان المجرب سليمان المسؤول عن المطحنة وصيانتها يمر بين الناس ويحثهم على الصبر وان الدور سيصل كل واحد منهم وانة لن يترك المطحنة حتى طحن اخر حبة قمح وخروج اخر طَّحان.. اخر حبة قمح واخر طحان و بعدها يغلق سليمان المطحنة ويعود الى بيتة...دلعونة الزمن... اللذين عبروا من هنا واللذين كانوا هنا ورَّحلوا... اللذين عبروا من هنا احتلوا فلسطين ورحلوا مدحورين بعد عقود وقرون والعابرون الجدد سيمرون مصيرهم مصير من سبقهم، واللذين كانوا هنا ورحلوا عنا وعن الدنيا كانوا ابناء فلسطين... رحلوا وتركوا فلسطين مزروعة في رحم التاريخ وامانة في عنق الاجيال الحاضرة والقادمة...بين شوال طحين محمد وسوارة زينب تعنكبت وتشابكت قصة وطن..هرم محمد وكبرت زينب وطارت عصافير العش لتحلق في سماء وافق الوطن وما زالت سوارة زينب صامدة في رصغها.. تغسلها بعد كل عجنة لتبدو باهية وصافية...ذَّهب عصملي صافي كما كانت وما زالت... الوطن يا زينب.. سوارة عصملي يعلق بها العجين كما علق بفلسطين.. نغسلة وتعود فلسطين...ذهب عصملي... اللذين عبروا من هنا واللذين كانوا هنا ورَّحلوا...الراحلون بكرامة كفن الوطن والعابرون مع العابرون بلعنة الوطن بلا كفن...!!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة