الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 10:02

وداعا أبي- لمسة وفاء / بقلم: جوزيف ابو خضرة

كل العرب
نُشر: 22/11/17 21:49,  حُتلن: 07:20

سبعون يوما على فراقك يا أبي، ومع الأيام أدركت معنى رحيلك المفجع وغياب حنانك من البيت الذي أصبح فارغا بدونك وأدركت أن الأب رجلا لا يتكرر أبدا، ولا يملأ الفراغ بعدك أي أحد لا أخ ولا حتى ابن. فكنت منبع أمان بليالي العمر، كنت الشموخ عند الشدة والصمود في وجه المحن.



لقد رحلت عني إلى عالم آخر لكنك لم ترحل مني، وهذا أسوأ رحيل، فبه انتُزع مني شيء كبير، مات بداخلي شيء، فتمزق قلبي ورويت وسادتي بدموعي الغزيرة وما زال طيفك واقفا أمامي وقفة الواثق كما عهدتك.
هذه هي سنّة الحياة أرحام تدفع وأرض تبلع. انتقلت إلى عالم آخر حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهد، بل حياة لا نهاية لها.

مسعود أبو خضرة، مشوار حياة وسيرة عطاء...
ابتدأ والدي مشوار حياته في الناصرة بمساعدة جدي في جيل مبكر في حانوت صغيرة في حارة الروم. وتعلم مهنة النجارة لدى الأستاذ الطيب الذكر توفيق الأسعد (أبو رمزي) وكان أبي طالبا بارعا في تعلمه المهنة، فزاول النجارة في أوقات فراغه وكم أحببت مرافقته آنذاك، لكنه كان ميالا للتجارة أكثر. وما بين النجارة والتجارة انتقل عام 1956 من الناصرة إلى حيفا حيث عمل هناك لدى جورج شقحة في شارع الملوك (العتسمؤوت)..
في العام 1960 تزوج واستقر نهائيا في مدينة حيفا وتابع عمله لدى عائلة الشقحة حتى العام 1970. وفي أول فرصة سانحة له اشترى حانوته الذي قضى بقية عمره مستقلا فيه، ولست أبالغ إن قلت إن تلك البقالة في شارع ألنبي ، باتت معلما من معالم حيفا بيافطته وقد كتب عليها "بقالة مسعود".

يجدر بالذكر أنه وإن خرج من الناصرة لكن الناصرة لم تخرج منه يوما ! فكنت تراه يتأثر بكل زبون نصراوي يدخل دكانه يحمل رائحة الناصرة معه
لم يتعلم أبي في المعاهد العليا لكنه تعلم في مدرسة الحياة فاعتمد على نفسه وعلى سعة اطلاعه فاكتسب المعرفة والثقافة والخبرة والتجربة. وكان عصاميا عزيز النفس أعال عائلته بعرق جبينه وكرامة نفسه. عاش متواضعا لإيمانه أن التواضع من سمات الواثق بنفسه، وعرف بجملته المشهورة " الفقر حشمة".

لقد ارتاد الزبائن البقالة من جميع أنحاء البلاد من هضبة الجولان حتى القدس يحملون شعور المودة والتقدير له وذلك لأمانته وجودة البضاعة ولسبب آخر لا يقل أهمية، ليتجاذبوا أطراف الحديث مع صاحب البقالة القارئ المطلّع المثقف المدرك الذي لا تفوته معلومة ثقافية أو أخرى. حتى أصبحت بقالته نقطة التقاء الخلّان في المدينة. لم يكن أبي مجرد قارئ عادي بل كان يقرأ عن ظهر قلب فيمرر بصره وبصيرته على كل حرف وكل كلمة وكل تفصيلة في الخبر فيجري له مسحا مفصلا وشاملا من الوريد للوريد.

ومن طرائفه الجميلة أنه إذا قرأ في الجريدة خبرا أو مقالة تخص أحد الزبائن أو تاريخ عائلته كان يحفظها عنده حتى يأتيه ذاك الزبون فيقدم له الجريدة مفتوحة على الصفحة ويقول له: خذ اقرأ هنا مقالة تخصك.

آمن أبي بالمحبة والأخاء بين الناس على جميع انتماءاتهم وكان منفتحا على الثقافات الدينية أيضا فقرأ القرآن الكريم وحفظ آيات منه وكان يستشهد بها عند الحاجة.

أحب الانسان مخلوق صورة الله وخدم جميع زبائنه من كل طبقات المجتمع بأمانة واحترام وسهر الليالي في سبيل إنجاح عمله غير مبال لمظاهر البذخ المجتمعية والألقاب. فعاش كريما، أصيلا، لطيفا، ومتواضعا بلا حدود .

زرع الصدق فجنى الثقة، زرع الخير فجنى الأصدقاء، زرع التواضع فجنى العظمة، زرع المثابرة فجنى الرضى وزرع العمل فجنى النجاح.

ومن باب وراء كل رجل عظيم امرأة، فقد كانت أمي رفيقة درب وسندا لوالدي في مسيرة حياته. ونجحت بالتوفيق بين عملها كربة بيت ومساعدة لأبي في دكانه وآزرته في العسر وكانت إلى جانبه في السراء والضراء حتى أخر يوم في حياته.
في 13.09.17 احتفلنا بعيد ميلاد أبي كما اعتدنا كل سنة في مثل هذا اليوم – يصادف عيد الصليب – جلست يومها إلى جانبه وتحدثنا وابتسمت له لكن قلبي كان حزينا لأني شعرت بشدة مرضه وألمه إذ كان يصارع المرض بصمت.

وفي اليوم التالي نقلناه إلى المستشفى لتلقي العلاج وتخفيف ألمه لكن لا طاقة لنا في مواجهة قضاء الله، فبعد أيام قليلة، في صباح يوم الأحد 17.09.17 أخذ الله وديعته وأغمض أبي عينيه إلى الأبد.

فُجع محبوك بخبر وفاتك الصادم ونزل الخبر كالصاعقة على الجميع. وبدأوا يتوافدون إلى قاعة الكنيسة لمشاركتنا مصابنا وحزنهم ودموعهم تسبقهم. لدرجة شعرت أنني أنا أعزي أحباءك وأصدقاءك برحيلك، ما زادني فخرا واعتزازا بك يا أبي.
قيل الكثير بحقك يا أبي في بيت العزاء وأكثر ما ذكر عنك أنك كنت تاجرا مثقفا. فأعادوني بذاكرتي إلى صغري حين كنت تطلب مني أن آتيك بجريدة الأنباء والاتحاد آنذاك.. ومطالعتك الكتب وقراءتك اليومية والمتميزة للصحف العربية والعبرية فتتزود بالذخيرة المعرفية لتناقش وتحاور كائنا من كان من أهل القلم والأدب.

حتى قال أحد هؤلاء الكُتاب مستغربا : إنك متابع لكل كتاباتي ونشاطاتي الأدبية ومحاور مثقف وعليم !
من أين تأتي بكل هذا الوقت للقراءة ؟
لم يعرف هذا الكاتب أنك يا أبي رجل - وإن بدوت متواضعا في مهنتك - لكنك عميق أصيل تسكنك روح الانتماء لشعبك ولغتك وأمتك.
نعم يا أبي لقد خسرناك.. خسرك مجتمعك بكل أطيافه وطبقاته.
وأنا، أنا خسارتي فادحة بفقدك، خسرت الأب، الجد، الصديق، الداعم، المحب.. لكن أواسي نفسي بأن من خلّف ما مات. وأعاهدك أني سأكمل طريقك وسأتابع السير على دربك وخطاك بقيم المحبة والتواضع والعطاء.
أرقد بسلام يا أبي وليتغمدك الله بفسيح جناته
وليكن ذكرك مؤبدا

ابنك المشتاق دومًا
جوزيف مسعود أبو خضرة
21.11.17

 

مقالات متعلقة