الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 18:02

ذكرى رحيل العم نسيم جريس عزّام (أبو منذر)/ بقلم: مارون سامي عزّام

كل العرب
نُشر: 12/10/17 07:24,  حُتلن: 14:20

مائدة الحياة طويلة، عامرة بالأحداث الحلوة والمرّة، لكن القدر يُقرّر لكل إنسان المسافة العمريّة التي يجب أن يقطعها منذ صغره... ليصل الحد الأقصى الذي حدّده له، فنقل القدَر العم نسيم عزّام، الذي قطعَ مشوارًا طويلاً، في دروب العطاء والعمل، والاجتهاد في كافة الأصعدة، طوال نصف قرن وأكثر، إلى ساحته الخلفية الخفيَّة حتّى غمره بعتمة الموت الدّامسة.

إنّه ابن الحارة الغربية الأصيل، التي تخبّئ بيوتها، حكايات حصرية، وأسرارًا خاصّة، تروي عراقة تاريخ شفاعمرو. العم نسيم كان يُعتبر مرجعًا أمينًا لأهم أحداث شفاعمرو، التي عايشها لحظة بلحظة، ظلّت مُخزّنة في ذهنه، استرجَعَها بفِطنته... جلستُ معه ذات مرّة، وبدأت ذكرياته تدُور في طاحونة الماضي، ساردًا لي بعض الأحداث بالتفصيل، كأنها حصلت بالأمس القريب، لقد استمتعت بسماعها منه، والممتع أكثر أنّه رواها بلهفة شديدة، فأدخلني لا شعوريًّا في نفق الأجواء التاريخيّة لمدينة شفاعمرو حينها.


أنا أعتبر الراحل ليس فقط من أوائل التجّار في شفاعمرو فحَسب، بل أعتبره إنسانًا مخضرمًا، إذ عاصر فترة الانتداب البريطاني، كما شَهِدَ على احتلال اليهود لشفاعمرو، ورغم ذلك استمرّ في تجارته التي طالت بيروت في سنوات الأربعين... مع بداية خمسينيّات القرن الماضي، فتَحَ دكّانه الصغير والشّهير في حارته، كنموذجٍ مصغّرٍ لمجمّعٍ شرائي بسيط، لنظافته وترتيبه. كانت رفوفه خشبيّة، كل غرضٍ فيه مُسعَّرٍ بخط يده الأنيق.

خدم هذا الدّكان أهل حارته، وأهالي الحارات الأخرى، الذين اشتروا منه حاجيّاتهم اليومية، اعتبرته كالفانوس السحري، الذي لبّى متطلّباتهم، حتّى احتوى أيضًا على بعض ألعاب الأطفال... كانت سماحة وجهه ماركة مُسجّلة في دفتر سِعة صدره، المليء بصفحات اعتداده بنفسه، المكتوبة بدواة الفخر. ابتسامته الدّائمة كانت قِلادةَ صفائه التي علّقها الرّاحل على جِيدِ حياته، وقد استلطفها الجميع.
وضع لسير حياته الخاصّة، نظامًا خاصًّا به، لم يحِد عنه، فكان منظَّمًا إلى أبعد الحدود، سواء في تناول وجباته، أو حتّى في ساعات دوامه واستراحاته. زوجته الفاضلة أم منذر، عاونته في الدكّان في أوقات فراغها المنزلي، وكانت ساعِده الأيمن، إشراقة وجهها أضافت نكهة اجتماعية خاصّة إلى حياته الأسرية، من خلال عنايتها بأولادها، الذين ساندوا والدهم في عمله، ووقفوا إلى جانبه في أواخر حياته، كما دعمهم بكل إمكانياته، حتّى حصلوا على أفضل المراتب العلميّة، فتألّقوا بتحصيلهم، وتفوّقوا نجاحًا بوظائفهم، وتساموا أدبًا وأخلاقًا في تعاملهم.

رغم أن العم نسيم لم ينَل حصّته من التعليم المدرسي، نتيجة الظّروف القاسية التي سادت تلك الفترة، لكن الحياة علّمته أن يكون عصاميًّا، متّكلاً على نفسه، صامدًا أمام ثورات الزّمن، التي حاولت الإطاحة بعرش آماله، لكنه جمع ثروات الغَلَبة، والاحتمال والنُّضج الفكري، فأثْرَتْ وعيه في سنٍّ مبكّرة، ليصبح تاجرًا مُحنّكًا، وشاهدًا على نهضة شفاعمرو السّياسيَّة والتجاريّة والعمرانيّة.
كانت لديه هواية مُحبّبة إليه، وهي إجراء حسابات خاصّة به، باستخدامه طريقة مُعيّنة، يَعرِف من خلالها إذا كان الموسم الشّتوي القادم، ماطرًا أم لا، ومع اقتراب الموسم، كنتُ أزوره في دكّانه، ليُطلعني على تكهّناته، التي كانت صائبة في كثير من الأحيان... سكن تاريخ شفاعمرو في ذاكرة العَم نسيم عزّام، وتجَمّع في محطّات شهاداته الحيَّة، ولكنّها سافرت معه على مركبة الوداع الأخيرة.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة