الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 02:01

قصة الابتسامة المهزومة/ محمد كبها

كل العرب
نُشر: 03/05/17 08:40,  حُتلن: 10:33

ها هي المركبات تعود الى القرية في ساعات المساء مثقلة بأجساد اسمنتية منهارة..
أسبوع آخر يمضي دون ثورة أو تمرد أو انقلاب ! توتر مرتقب في المكان ، فلدى الرجال هم جديد!
في قريتي يعود العمال مساء الخميس إلى بيوتهم، وفي كل خميس إذا صادفت رجلا أو شابا منهم تراه يستبدل القدسية والبركة الإلهية بشؤم الأطلال ! تَرى البالغ منهم عابسا مكفهرا يغوص في دياجير الهم . ُترى ما الذي حلّ بهم في هذه الليلة المباركة ؟
كانت طفولتي تصطدم دوما بهذا الحال وكنت أبحث عن إجابة تلهيني عن التأمل ، إلا أن سلوك الناس لم يتركني وشأني .
في تلك الليلة حينما اعتدت الجلوس على شرفتي التي تعانق الكرمل المنير من بعيد، كنت أصغي لجدي حسن وهو يتلو ما تيسر له من سورة الكهف وكلما تعمق في القراءة تعمق الليل معه وراحت أصوات الناس وثرثراتهم تخبو على رسلها حتى يجتاح السكون البلدة بأسرها ، سكون محاط بالحذر وتعب النفوس، كيف لا وغدًا سيجتمعون في مكان واحد؟
تمضي الليلة وينطلق صوت أذان الفجر ، حنجرة المؤذن تظهر متثائبة يخترقها النعاس ، وغالبا ما كان ينسى بصوته الجبلي عبارة " الصلاة خير من النوم" ، ورغم ذلك لم يلمه أحد في القرية في وجهه بل كانوا يستغيبونه في مجالسهم الكثيرة.
كأنه بحّار قادم على باخرة النجاة يتسلل يوم الجمعة إلينا برفق ، الإيمان الأعمى يطغى على البيوت!
وفي ساعات الضحى كانت حنفيات المياه عنوان الناس ، لكنهم رغم ذلك كانوا يتطهرون في حنق ، كيف لا وتيار المياه بطيء ضعيف ؟ كنت أسمعهم يصرخون ويشتمون جمعية المياه والقائمين عليها، وأذكر أني عندما سألت جدي عن أزمة المياه وتذمر الناس أجابني بتنهد : فليدفعوا ديونهم المتراكمة حتى يتسنى لإدارة الجمعية تصليح شبكة المياه وتطويرها.
لا أنكر أن إعجابي بجدي كان يزيد يوما بعد يوم ، وطالما اعتبرته ملجأ ومتنفسا أشكو إليه تخبطات نفسي ، كنت أتعمد مرافقته في زياراته لأترابه ومعارفه وصلواته الدائمة في المسجد.
رُفع أذان الظهر مجلجلا كعادته ، وفي طريقنا إلى المسجد تبارزت قنوات الصرف والمجاري على احتلال أكبر مساحة من الشارع، المصلون يتقافزون بين الحفر والقنوات النجسة علهم ينجون منها! كان قرص الشمس يناطح لبان السماء، لا بد أنه يوم حار! كنت أرى وأسمع معاملة الرجال لنسائهم وبناتهم فمنهم من يصرخ في وجه زوجته لأن وقت الصلاة قد حان وهي ما زالت تكوي لباسه ، ومنهم من يعنف ابنته لتأخرها عن إحضار الطيب له ، وآخر يخرج غاضبا لأنها لم تلمع له حذاءه الإفرنجي القديم...
وصلوا جميعهم إلى المسجد ، ساعة قاتلة في انتظارهم ، تصادم حبات المسبحات يوحي بتصادم النفوس! جلس المصلون كل في مكانه المعهود ، وإذا ما سألت طفلا صغيرا في القرية عن أماكنهم تجده يرددها أمامك دون ما لحن أو زلل !
مروحة المسجد الوحيدة لا تعمل ، والعرق يتصبب من مناسم المصلين ، الكل يغلي ولا نسمة صيف في الفضاء ، رائحة كريهة تتوافد من ذلك البساط القديم تصطدم بجدران المسجد وتنحدر عميقا في أنفاسي ، حتما هي رائحة الأقدام ما أجبرتني على رفع رأسي بعد انحناءة طويلة لأرى الحقد الدفين في عيون الناس ! وجدتني أمعن النظر في الحاج عبد الرحمن والحاج عبد الرحيم ، وهما شقيقان متحاربان منذ أيام النكسة ! لا أحد يعرف كنه حرب البسوس بين العبدين ، وحتى جدي كان قد عجز عن تبرير الخلاف المتجذر بينهما ، ولكن أغلب الظن أنّ لقضية الأرض وتقسيمها دورا بارزا في هذا الصراع.
أسند الحاج عبد الرحمن ظهره إلى مقدمة الحائط الغربي وقابله الحاج عبد الرحيم في مقدمة الحائط الشرقي، شاهدتهم يتبادلون النظرات وأقسم أنها كانت كاللكمات!
صعد الخطيب إلى المنبر وراح يجود بخطبة خُيّل إلي أنه القاها أمامنا في أعوام مضت ، رأيته يجتر الكلام اجترارا والناس يتمتمون بكلام لم أفهم منه سوى ذكر الله ، رأيت كثيرا منهم يغطون في سبات عميق، كانوا لا يستيقظون إلا على صوت " أبو فهمي " بائع الخضار المتجول بسيارته الصفراء المحتضرة دون أن يكترث لنداء الصلاة أو مشاعر العباد ،كل هذا والحاج عبد الرحمن ما زال يرسل سهام نظراته نحو " عدوه " الحاج عبد الرحيم والآخر يبدو متوعدا له !
سنوات كثيرة مضت وأهل قريتي على هذا الحال يفتقدون إلى الخشوع في التكبير والركوع والسجود!
لا أعلم ما الذي جعلني أفعل ما فعلته في صلاة الجمعة الأخيرة فعلى الرغم من كون المسجد يتسع للمزيد من المصلين ، جلست في الخلف إلى جانب أطفال القرية الذين اعتادوا على الفوضى والشغب، وبعد انتهاء الخطبة المعهودة استعد الإمام للصلاة واصطف الناس خلفه بتلقائية، وقبل أن يرفع يديه للتكبير رفعت صوتي مناديا : تـقـدّمــــــــــوا تـقـدّمــــــــــــــــــوا !!
فتقدم المصلون صفا واحدا في استقامة بهائية ، فعلوا ذلك دون أن يدركوا سر ندائي ، فابتسمت ابتسامة مهزومة وأذعنت في الصلاة. 

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.ne


مقالات متعلقة