الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 13:02

تفكيك منظومة نزع التسلح الموروثة/ بقلم: عبد النور بن عنتر

كل العرب
نُشر: 11/03/17 07:52,  حُتلن: 08:48

عبد النور بن عنتر في مقاله:

نشر روسيا صواريخ أس أس سي 8 المتطورة، جنوب البلاد، رد استراتيجي على درع الصواريخ الأميركية

لا جدال في أن أي نظام مضاد للصواريخ، بصرف النظر عن قوته ومداه، هو مصدر قلق لطرف أو لآخر

لا يستبعد أن تكون هذه التطورات حلقاتٍ متتاليةً في سلسلة تفكيك منظومة نزع التسلح هذه، على الرغم من أنها جنبت العالم ويلات الدمار الشامل

أعلنت إدارة بوش الابن، في نهاية العام 2001، أن الولايات المتحدة الأميركية ستنسحب من معاهدة الصواريخ المضادة للبالستية الموقع عليها مع الاتحاد السوفييتي في يونيو/ حزيران 1972. وكانت القوتان العظميان قد التزمتا بموجبها بالحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية، وتحديداً الصواريخ المضادة للبالستية، بحظر تطوير هذه الأنظمة، وتجنب السباق في مجال الصواريخ العابرة للقارات. ذلك أن تطوير مثل هذه الأنظمة الصاروخية يقود إلى تحييد الأسلحة النووية، وبالتالي إفراغ الردع النووي – قوام الأمن العالمي، خلال الحرب الباردة وبعدها، من محتواه. بعد استيفاء الآجال القانونية، انسحبت الولايات المتحدة من هذه المعاهدة رسمياً بداية من يونيو/ حزيران 2002، أي بعد ثلاثين سنة على توقيعها. وهو قرارٌ خطيرٌ كونه سابقة في مجال تفكيك منظومة نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة، والتي سمحت للعالم بالانتقال من نظام إلى آخر سلمياً، أول مرة في التاريخ.

من منظور أميركي، كان الانسحاب ضرورياً لتطوير درع الصواريخ المضاد للصواريخ لحماية الولايات المتحدة من "الدول المارقة" التي أصبحت تسمى دول "محور الشر"، وخصوصاً إيران وكوريا الشمالية، حسب مزاعم إدارة بوش الابن. لكن، نظراً للقدرات المحدودة لكوريا الشمالية، والمهملة تماماً لإيران، فإن المستهدف من هذه الدرع هو روسيا دون سواها. وهذا ما أثار طبعاً حفيظة الأخيرة التي رأت في ذلك تدميراً لمنظومة نزع التسلح التي أثبتت جدواها، وتهديداً للأمن والسلام العالميين، بفتح أبواب السباق نحو التسلح، فضلاً عن تهديد الأمن القومي الروسي. بيد أن الإدارة الأميركية لم تكترث بذلك، وأصرّت على تنفيذ خطتها لبناء الدرع الصاروخي، ونشره في بعض الدول الأوروبية الحليفة، فالهدف هو إقامة درع صاروخي متقدم جداً، يحمي كامل التراب الأميركي، ليكون دلالةً على التفوق الأميركي عقودا، وذلك بتطوير تكنولوجيا متقدمة، تستند إلى أجهزة ومحطات الإنذار المبكر، تُنشر على التراب الأميركي، وتراب دول حليفة، مثل بريطانيا لتحديد وتقفي أي نشاط لصواريخ بالستية في العالم واعتراضها وتدميرها في الجو قبل ضربها أهدافها. من هذا المنظور، يكون تفكيك منظومة نزع التسلح وسيلةً لتحقيق التفوق العسكري... لكن الإدارة الأميركية تجاهلت أمراً إستراتيجياً في غاية الأهمية، وهو المعضلة الأمنية، بمعنى أن تعزيز الأمن القومي الأميركي بهذا الشكل سيدفع، عاجلاً أو آجلاً، روسيا إلى تعزيز قدراتها هي الأخرى، ما يدخل القوتين في سباق نحو التسلح.


مع التقارب الأميركي-الروسي، وخصوصا الروسي-الأطلسي (الناتو)، تمكّنت الولايات المتحدة  تدريجياً من امتصاص غضب روسيا وطمأنتها بأن المشروع لا يستهدفها، إلا أن ذلك لم يكن، في واقع الحال، إلا واحدةً من جولات التفاوض السياسي، والانحناء الإستراتيجي، ريثما يتضح الخيط الأبيض من الأسود، وتستعيد روسيا عافيتها، كما سنرى.
واصلت أميركا مشروعها، مقتنعةً بعدم قدرة روسيا منهكة القوى على مجاراتها، وقطعت أشواطاً متقدمة، خصوصا مع اقتناع عدد من حلفائها في "الناتو" بضرورة نشر مثل هذا الدرع. ومن المنتظر أن يصبح درع الصواريخ الأطلسي، بقيادة أميركية، في أوروبا جاهزاً في العام 2020، لمواجهة أي تهديد بالستي قادم من الشرق الأوسط أو كوريا الشمالية، حسب الخطاب الأورو-أطلسي. لتعود روسيا مجدّداً إلى التنديد بهذا الدرع الذي يضع ترسانتها الإستراتيجية على المحك.
مع نهاية العقد الأول، وبداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بدأت روسيا في استعراض قوتها، ففضلاً عن فرض موقفها في الأزمة الأوكرانية، ولعبها الأدوار الأولى في الأزمة السورية، استعرضت عضلاتها العسكرية في أكثر من مناسبة، فقبل عامين، حلقت مقاتلاتها، مرتين، على مقربةٍ من السواحل الفرنسية (المقابلة للسواحل البريطانية والمتاخمة للإسبانية)، قبل أن ترافقها مقاتلاتٌ فرنسيةٌ وتجبرها على الابتعاد عن المجال الجوي الفرنسي، والعودة من حيث أتت. وفي أبريل/ نيسان 2016، حلقت مقاتلات روسية على مسافةٍ اعتبرتها الولايات المتحدة قريبة جداً من مدمرة أميركية في المياه الدولية في بحر البلطيق.

ويمكن القول إن نشر روسيا صواريخ أس أس سي 8 المتطورة، جنوب البلاد، رد استراتيجي على درع الصواريخ الأميركية. وهذا ما اعتبرته الأخيرة خرقاً لمعاهدة 1987 حول الأسلحة النووية متوسطة المدى. وقد صرّح الجنرال بول سلفا، نائب قائد أركان الجيش الأميركي، الأربعاء الماضي، بأن روسيا نشرت فعلاً هذه الصواريخ، ما يشكل خرقاً لروح معاهدة نزع التسلح وهدفها، وما يهدّد الحلف الأطلسي.

يشير هذا كله إلى عودة قوية لروسيا على الساحة العالمية. ما يعني أن الولايات المتحدة في مواجهة قوتين مختلفتين من حيث الطبيعة: القوة الروسية العسكرية التي استعادت عافيتها والقوة الصينية الصاعدة. إنها دلالات تحولات القوة العالمية وتقلبات المشهد الدولي. ومن ثم، على أميركا أن تفكر ملياً قبل مراجعة منظومة نزع التسلح الموروثة عن الحرب الباردة، لأن لدى روسيا "العائدة" من القدرات ما يمكنها هي الأخرى من مراجعتها.

لا يستبعد أن تكون هذه التطورات حلقاتٍ متتاليةً في سلسلة تفكيك منظومة نزع التسلح هذه، على الرغم من أنها جنبت العالم ويلات الدمار الشامل. والمشكلة أن تنصل أميركا وروسيا من مسؤوليتهما الإستراتيجية سيفتح الباب على مصراعيه لدول أخرى، لتطوير أسلحةٍ من المفروض أن تكون محظورة. وهذا ما يزيد من مخاطر انتشار التكنولوجيات المتقدمة وصواريخ متطورة قادرة على حمل رؤوس نووية، أو غيرها (كيميائية أو بيولوجية). ولا جدال في أن أي نظام مضاد للصواريخ، بصرف النظر عن قوته ومداه، هو مصدر قلق لطرف أو لآخر. فروسيا رأت في نشر أميركا نظام الدفاع الصاروخي، المسمى ثاد، القادر على اعتراض (وتدمير) الصواريخ البالستية قصيرة ومتوسطة المدى، في كوريا الجنوبية لردع كوريا الشمالية، بعد إطلاقها التجريبي لصواريخ بالستية، مساساً بالتوازن الإقليمي، فيما اعتبرته الصين تهديداً لأمنها القومي.

* نقلًا عن العربي الجديد- لندن

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة