الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 10:01

الحلم/ بقلم: أحمد الصح

كل العرب
نُشر: 23/01/17 17:47,  حُتلن: 08:39

ما زال يلازمه شعور مختلط من الفرح والحزن والبسمة تعلو على شفتيه وسرعان ما تختفي. الفرح يجاهد ليولد البسمة على محياه، الحزن والفرح اتخذا لهما مسكناً دائماً ما بين ضلوعه والصراع بينهما لا يتوقف ولا يهدأ.
حين يعود بذاكرته إلى الوراء يحتل الحزن كيانه وتظلم الدنيا في وجهه وتنساب العنات والآهات كخرير جدول ماء اغناه الخالق بالمطر وحين ينظر ويتأمل نحو المستقبل يشعر بنشوة فرح وغبطة وعندها ينهزم الحزن بداخله " تارة للحظات وتارة لمدة أطول .
نشا وترعرع في حضن والديه اللذين كدا وبذلا كل الجهد ليوفرا له ولإخوته مستقبلاً باهراً غني بالسعادة وهداة البال .
كان هو أكبر إخوته سماه والده سلام فهو من أسماء الله الحسنى وتمنى أن يكون هذا الاسم فأل خير ومحبة وسلام .
عمل أبوه عاملاً في مجال البناء لسنوات عديدة، كانت مهمته مراقبة العمل والإشراف على تنفيذه بصورة صحيحة وسليمة، عمل بلا توقف حتى في أيام العطل، كان يذهب إلى أرضه التي ورثها عن أبيه ويقوم في تعزيلها وصيانتها بعد أن انسحبت منها العساكر التي احتلتها كغيرها من أراضي القرية وحولتها إلى معسكر للتدريب والتمارين العسكرية.
وبعد نضال مرير دام سنوات عديدة أثمر كفاح أهل القرية، حيثُ أجبرت هذه العساكر على الانسحاب من معظم أراضي القرية التي احتلتها.
وعندما أوشك على الانتهاء من مهمة إصلاح أرضه انفجر لغم من مخلفات الجيش وارتوى تراب أرضه بدمه وبين ليلة وضحاها أصبح يتيماً وألقيت على كاهله مسؤولية إعالة أسرته المكونة من والدته وأخ وأخت . قاوم كل الظروف وأصر على إنهاء الثانوية العامة والتحق بأحد المعاهد العليا عمل بجد ونشاط خاصة في العطل المدرسية وعمل نادلاً في المطاعم والحانات حاز على العديد من الجوائز والمنح لاجتهاده وحصوله على العلامات الممتازة أثنى عليه معلموه ونال احترام الجميع .
عاد إلى بلده حاملاً شهادة مهندس معماري بدرجة ممتاز وعلت زغرودة أمه حينها وعجت الدار بالزوار والمهنئين من أهالي القرية الذين رأوا به مفخرة للقرية وأهلها وأصبح موضع احترام وتقدير لدى جميع أهالي القرية، ألحت عليه والدته بتدبير أمره في البناء والزواج ورفض البداية تشييد بيت له على الأرض التي استشهد عليها والده، خاصة وأن هذه الأرض ومحيطها تمتنع السلطات على إصدار تراخيص بناء، وعندما أفتى له إمام القرية بأنه يجوز البناء على الأرض التي استشهد عليها والده، وأن الله يجزيه الخير لأنه بذلك يحافظ على الأرض.
بدأ بتخطيط بيت من طابقين له ولأسرته، رفضت السلطات إعطاءه ترخيص بحجج واهيه وغير مقنعة واستعملت معه سياسة التعجيز واللف والدوران والمماطلة والخداع، وقرر البناء بدون ترخيص وكان يعرف بأنه سيدفع مبلغاً من المال عقوبة لمخالفته.
بنى بيتاً تحفة للناظرين وبدأ بتجهيزه وأيقن بأنه خلال عام سيصبح البيت جاهزاً للسكن.
جلس في ظل الحائط على كومة كبيرة ورطبة من الرمل والعرق يتصبب من جبينه والبسمة تعلو شفتيه.
سرح خياله بالأحلام والآمال وتمنى أن يقترب اليوم الذي يجتمع به مع حبيبته سلام وما أغرب المفارقات وما أعجب الصدف وتذكر ذلك اليوم الذي التقى به مع حبيبته لأول مرة، كان ذلك أمام بوابة المعهد التعليمي في أول يوم من الفصل الدراسي، عندما كانت تسير أمامه بخطى ثابتة، قامتها ممشوقة وشعرها الأسود لفته بشال عنابي اللون وعندما بادره زميله بالتحية قائلاً له " أهلاً سلام كيف الحال" التفتت إلى الوراء وقالت له "عفواً ناديتي؟" أجابها "لا هذا زميلي سلم علي" قالت "أنا اسمي سلام أيضاً" فقال متبسماً" اسم على مسمى" ضحكت واستمرت في سيرها، ومن يومها تعلق قلبه بها وأحس بأنها هي الأخرى تبادله نفس الشعور والإحساس ويوماً بعد يوم نمت العلاقات بينهما وترعرعت في جو من الاحترام والحب المتبادل حتى وصلا إلى قمة التفاهم, وكان قرارهم المشترك بأنها له وهو لها.
ومنذ ذلك الحين ساروا بخطى ثابتة ساعة بساعة ويوماً بيوم للوصول إلى الهدف المنشود وهو لم الشمل تحت سقف واحد ليجتمعا هما والحب معاً وبدأ بتذليل الصعاب الواحدة تلو الأخرى لم يعرف طعماً للراحة وكان على يقين بأنه سيعوضه في النهاية. لم يذهب إلى الرحلات والنزهات ولم يعرف حياة البذخ والرخاء.
كان يؤمن بأن لبدنه عليه حق ولكن كان يعزي نفسه بأنه سوف يعوِّض هذا التعب والجهد بعد لقائه الموعود بحبيبة قلبه وروحه، أخذته غفوة قصيرة قوامها دقائق بعد أن سيطر على جسده التعب، أحس برعشة فنهض وكان الليل قد خيم على المكان.
عاد إلى بيته يملأه شعور من الرضا كونه قطع شوطاً كبيراً نحو الهدف.
وتمر الأيام تلو الأيام والأمل يلازمه ولم تعكر مزاجه سوى تلك الورقة الصفراء الباهته كورقة.
الشجر في نهاية الخريف التي تنذره بالويل على ما اقترفته يداه من جريمة بناء بيت له، ولعائلته بدل ذلك البيت القديم المتهالك والخطير بنى البيت على أرض أبيه وجده وجد جده وهاهم ينذرونه ويخالفونَهُ.
وقف أمام القاضي الذي تلى عليه التهمة الجريمة "بناء بيت بدون ترخيص".
"الأرض لي يا سعادة القاضي وهي في محيط القرية ورثتها عن أبي وجدي والطابو موجود في جيبي".
أبي استشهد بها وقدمت للمسؤولين كل ما هو مطلوب مني ولكنهم ما زالوا يماطلون بحجج واهية وغير مقنعة وأنا أطلب منك يا سعادة القاضي بأن تصدر قراراً يلزم هؤلاء المسؤولين بإعطائي.
الترخيص اللازم لبيتي كوني عمرته بعرق جبيني بعد أن سهرت الليالي وأنا يا سعادة القاضي مقدم على الزواج في الربيع القادم وستكون يا سعادة القاضي أول المدعوين لفرحي"
طأطأ القاضي رأسه (الحكم في الأسبوع القادم) نطق القاضي، ناوله ساعي البريد الورقة الصفراء
عليك هدم بيتك بيدك وإلا ستدفع تكاليف الهدم بدأت الزيارات المكوكية إلى الدوائر الحكومية وجميع الردود صبت في خانة الوعود واللف والدوران كان يسابق الزمن فيوم فرحه يقترب وقرار الحكم جاثم فوق صدره وفكره مشغول بقي شهر على موعد الفرح. كان يشاور خطيبته في كل صغيرة وكبيرة كانت أحلامهم كبيرة خططوا للمستقبل حتى اسم المولود قرروا إذا كان ذكراً أو أنثى فسيسمونه سلام وهكذا تصبح العائلة كلها سلام بسلام

بدأ بتدوين بطاقات الدعوة للفرح ولم ينسى سعادة القاضي الذي حكم بهدم بيت الأحلام فها هو يوفي بوعده، المؤمن إذا وعد أوفى وها هو يضع اللمسات الأخيرة للفرح المنشود الذي بقي له أيام معدودات: ليالي التعاليل، سهرة الحناء، العشاء، زفة العريس، حناء العروس، القهوة، فرقة الطرب، التضيفات، حبال الزينة، بدأت سهرات التعاليل جميع الأهل والأصدقاء مستنفرون لإنجاح الفرح سيكون عرس الأعراس هكذا خمن الجميع وبيت العروس هو الاخر كان أشبه بخلية نحل أهل العروس سمعتهم طيبة والعروس حازت على شهادة التربية بامتياز وينطبق عليهم المثل القائل "وافق شنٌ طبقة" كل الظروف تتجمع وتتهيأ لإنجاح هذا الفرح هذا العرس الشعبي بقي أربعة أيام للعرس واتفق الجميع بأن العرس سيكون في الساحة العامة للقرية كون بيتهم ضيق ولا يتسع لهذه الجماهير الغفيرة وبهذا أصبح عرس القرية كلها.
وكانت الليالي الأولى للعرس أشبه بمظاهرة شعبية من الفرح والسرور، واستمرت حتى ساعات متأخرة من الليل، ولم ينسى والده فذهب وقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة
وشارك الجميع بالرقص والدبكة وتعالت الزغاريد وهذا الفرح لم تشهد القرية مثله من قبل وبعد منتصف الليل بقليل دوى انفجار هائل هز القرية ومحيطها وذهل الجميع وساد المكان صمت رهيب وشاهد الأهالي سحب الغبار الكثيف تتعالى من ناحية بيت العريس، وتراكض الأهالي صوب البيت الذي لم يبقى له أثر وبكى الجميع تأثُّراً من هذا المشهد المؤلم والمحزن مشى بخطى ثابتة والتقط صورة والده الذي طيرها الانفجار ومسح الغبار عنها وقبلها ووضعها في حضنه، وتحول الحشد إلى مظاهرة عفوية وعلى التو عقد اجتماع طارئ حضره جميع أهالي القرية ووفود من القرى المجاورة أتت مستنكرة ومتضامنة مع العريس وأهالي بلده ووسط هذا الحشد الهائل صرح إمام القرية بما يلي: أن هذا العمل الإجرامي التي قامت به شلة من الزُّعران باسم القانون تسللوا كالخفافيش في جنح الظلام واستغلوا وجود أهل القرية في فرح وعرس ابنهم سلام وابنتهم سلام وفجروا بيت الأحلام الذي بني على أرض والدهم الشهيد ونعلن من هنا وأمام هذه الجماهير الغفيرة بأن العرس سيستمر كالمعتاد غداً كما ونعلن أمامكم بأن العرس سيكون عرسان حيث سنشمر عن سواعدنا جميعاً لإعادة البناء الذي هُدِم من جديد على أن ننتهي من بنائه في نهاية شهر العسل حيث سيرجع العروسان من رحلة شهر العسل وسيسكنون به وهكذا نثبت للأيدي الهمجية بأننا (قدها وقدود) وأن غداً لناظره قريب وسيكون العرس عرسان عرس الزواج وعرس البناء وفي اليوم التالي تمت الزفة على أنقاض البيت المهدوم وسط زغاريد الفرح ودقات المطارق والمعاول وكانت ورود الربيع وأزهاره تبعث بأريجها وعطرها لتعطر جو الاحتفال . تقدم العريس مع عروسه ووضع اللبنة الأولى للبناء وسط زغاريد النسوة وهتافات الرجال بأن: الحياة أقوى من آلات الهدم، وأن الحق أقوى من الباطل وأن الحياة أقوى من الموت، وأن السلام أقوى من الحرب، وأن البناء أقوى من الدمار، علت على شفتيه ابتسامة ملأت قسمات وجهه غالبة التعب، حضن عروسه وراح يغط بسبات عميق وبدأ يحلم أحلاماً جميلة (من أول وجديد).

(عرابة البطوف)

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net


مقالات متعلقة