الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 18 / أبريل 00:01

أمُّ الإثنين (الجزء الثاني)/ بقلم: د. حاتم عيد خوري

كل العرب
نُشر: 29/10/16 10:01,  حُتلن: 10:03

إتضح لسميرة ولخطيبها مروان، انها حامل قبل موعد زواجهما بأكثر من شهرين. تمَّ الاتفاقُ بينهما وبين أم سميرة والعاملة الاجتماعية الست وداد، على إخفاء السرّ، وعلى إختيار مستشفى ولادة بعيد وعلى تسليم المولود لعائلة مُتبنيِّة، والاعلان ان الجنين قد مات لانه ولد قبل موعده. حينما حانَ موعد دفع الثمن، وهو تسليم المولود للست وداد كي تنقله الى العائلة التي تبنّتْه رسميا وقانونيا، وحضرت الى المستشفى لإستلامه، طلبت سميرة إحضارَ الطفل اليها كي تُرضعَه للمرة الاخيرة. تناولتْه من يد الممرضة بيدين مرتجفتين. تأملتْه مليّا فلاحظت الشامة (الوحمة) المتربعة فوق طرف حاجبه الايمن. سحرتْها سحنتُه. حضنتْه بكل جوارحها. أذابتْها حركةُ شفتيه وكأنه يبتسم لها. هزّتْها حتى الاعماق نظرتُه الناعسة، فبدا كأنه يعاتبها قائلا لها: "أتتنازلين عني يا امي؟! أتتركينني فعلا؟!!". شعرت وكأن سيفا يخترق قلبها.انفجرت باكيةً فأبْكت كلَّ من حولها، سيما عندما سمعوها تولول ناحبةً: "يمّا حبيبي"، معلنةً انها لن تتنازل عنه ولن تتركه رغم كل الاتفاقيات الموقّعة ومهما كان الثمن. فهل إستطاعت سميرة تحقيقَ مطلبها والاحتفاظ بابنها؟".

اعتراضُ سميرة على تسليم ابنها للتبنّي وتراجعُها عن موافقتها الخطية السابقة، ضعضعتْهما حملةُ الإقناع التي قامت بها والدتُها ام سميرة. إصرارُ والدتِها المغلَّف بالدموع والنابع من خوفها من افتضاح الامر، وسكوتُ مروان الذي بدا مُحرَجا جدا إزاء حماته، وتأكيداتُ الست وداد بان المولود سيكون في ايدٍ أمينة للغاية، جعلت سميرة ترضخ للواقع المرّ، فسلّمت مولودَها للست وداد. كانت الدموع تنهمر من عينيها، ونياط قلبها تتقطع....

عادت سميرة وزوجُها ووالدتُها الى البيت. كانت مكسورة الخاطر، مهيضة الجناح ومحطمة الاعصاب. ارادت ان تنفرد بنفسها في غرفة نومها، ربما تعبيرا عن نقمتها على "عالم ظالم لا يرحم" حسب تعبيرها. غير انّ واجب إستقبال الضيوف، سيما النسوة من الجارات والقريبات والصديقات الخ...، اللواتي اقبلن اليها معزيات ومشجعات، جعلها مرغمة على مجالستهن والاستماع الى حديثهن وما تضمنه من كلمات تعزية لها ب"فقدان جنينها"، ومن تعابير تشجيع كقولهن: "الله يعوّض عليكِ". هذا التعبير بالذات، الذي رُدِّد امامها، مئآت وربما آلاف المرات، ترك أثرا في نفسيتها ووجد له تربة خصبة في قلبها، سرعان ما انبتت أملا بحَمْلٍ جديد يُتوَّج بمولود يُنسيها ما مضى ويشحنُها بتفاؤلٍ لمستقبل افضل.

غيابُ الحمْل في السنة الاولى بعد "الاجهاض"، لم يقلق سميرة كثيرا. لكنّ الاشهر التي تلت ذلك، اضحت تقضُّ مضجعَها. بات "موعدُها الشهريّ" موعدا شهريا على محطة إنتظارٍ لجنينٍ مُشتهى يحملُه اليها قطارُ الايام، لكنّها طالما عادت خائبةً من تلك المحطة، وهي ترى جسدَها "يبكي" دما على حياةٍ جديدة لم يحتضنها. تكرارُ هذه الحالة على امتداد سنتين متتاليتين، جعلت سميرة ومروان يلجآن للطبيب. الفحوصُ العامة والمخبرية أكّدت سلامةَ الوضع، فبعثت في نفس سميرة اطمئنانا كانت بحاجةٍ ماسّة اليه، ومنحتْها هدوءًا نفسيّا ترك اثره عليها. وما هي سوى بضعة اشهر وإذ بطبيبها يزفُّ اليها البشرى التي انتظرتها طويلا....

حرْص ُ سميرة على المتابعة الطبية اثناء الحمْل، وتقدمُ نمو الجنين بصورة طبيعية، لم يمنعا ظهور تعقيدات غير متوقعة اثناء الولادة، أدّت بدورها الى تدخل جراحي انقذَ الوالدةَ والمولود، لكنّه سبّب اضرارا قد تحول دون إنجابٍ مستقبليٍّ آخر. غير ان الفرحة بسلامة سميرة والمولود إلياس (على اسم جده لوالده) كانت عارمة فغطّت على أي حدث آخر...

نما إلياس وتطورَ فبدا كامل الاوصاف: طلّةٍ جميلةٍ ملفتة للأنظار، لياقةٍ بدنيةٍ أكسبته تقدير مركِّزي الفرق الرياضية، أخلاقٍ كريمة حبّبت به كلَّ من تعامل معه، وذكاءٍ متقدّ حقَّق له نجاحا باهرا في المدرسة الابتدائية والثانوية ايضا، فعُبِّدت طريقُه الى كلية الطبّ والى تميّزه هناك بحصوله مرتين متتاليتين على جائزة رئيس الكلية. وهكذا، اصبح إلياس، فضلا عن كونه ابنا وحيدا، مصدرَ فخر وإعتزاز لوالدته وينبوعَ تعزية استمدت منه سميرة قوةً جبارة جعلتْها تتحملُ ضربتين قاسيتين جدا: موتَ والدتها قبيل تخرج إلياس من المدرسة الثانوية، وموتَ زوجها مروان قبل اشهر قليلة.

كان إلياس يقضي مع والدته إجازةً قصيرة قبيل عودته الى سنته الثالثة في كلية الطب، عندما شعر بتعب غير مألوف ينتابه. لم يُعر الأمر اهتماما، لكنه عندما لاحظ أن التعب اصبح إرهاقا مصحوبا بألم في العظام والمفاصل، ولاحظ شحوبا في جلده وهبوطا في وزنه، سارع إلى إجراء فحوصات طبية كشفت عن إصابته بسرطان الدم. هذه الضربة قصمت ظهرَ سميرة، فهجرت بيتها وفرضت على نفسها إقامة دائمة الى جانب سرير ابنها في المستشفى.
إستنفد الاطباءُ ما رأوه مناسبا من العلاجات المتوفرة كالإشعاعية والكيماوية، فاستقر الرأي على اللجوء الى وسيلة أخرى. فما هي هذه الوسيلة؟ وهل ستؤتي نجاحا فتعيدُ إلياس إلى أمّه سالما؟ عن هذا ساحدثكم لاحقا....

مقالات متعلقة