الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 05:02

أمُّ الاثنين (الجزء الثالث)/بقلم: د.حاتم عيد خوري

كل العرب
نُشر: 28/10/16 09:18,  حُتلن: 13:02

لقد انهيتُ الجزء السابق من قصة "أمُّ الاثنين" بالفقرة التالية: كان إلياس يقضي مع والدته سميرة إجازةً قصيرة قبيل عودته الى سنته الثالثة في كلية الطب، عندما شعر بتعب غير مألوف ينتابه. لم يُعر الامرَ اهتماما، لكنه عندما لاحظ ان التعب اصبح إرهاقا مصحوبا بألم في العظام والمفاصل، ولاحظ شحوبا في جلده وهبوطا في وزنه، سارع إلى إجراء فحوصات طبية كشفت عن إصابته بسرطان الدم. هذه الضربة قصمت ظهرَ سميرة، فهجرت بيتها وفرضت على نفسها إقامة دائمة الى جانب سرير ابنها في المستشفى. إستنفد الاطباءُ ما رأوه مناسبا من العلاجات المتوفرة كالإشعاعية والكيماوية، فاستقرّ الرأيُ على اللجوء الى وسيلة اخرى. فما هي هذه الوسيلة؟ وهل ستؤتي نجاحا فتعيدُ إلياس الى امّه سالما ؟
إستقر رأيُ الاطباء على اللجوء الى عملية زرع نخاع العظم. لكن هيهات ان يجدوا متبرعا ملائما سيما بعد ان تبيّن لهم أنّ فصيلة دم إلياس وانسجة جسمِه تُعتبر نادرةً، وبالتالي يصبح أمرُ إيجاد متبرع ملائم قضيةً تلامس المعجزة. ابتدأ البحثُ واستمرَّ اسابيع دون جدوى. شَعَر الاطباء انهم في سباق مع الزمن، فَخَشوا فواتَ الفرصة وبلوغَ إلياس طريقَ اللاعودة، وبدوا عاجزين امام سميرة التي كانت تلاحظ إبنها يذوي امامها، فلا تجد سبيلا إلا البكاء والصلاة. استنجدت بكل الرسل والانبياء والقديسين. دأبت على إستجداء نظرة تفاؤلٍ من الاطباء، فبدت وكأنها تحترفُ خيباتِ الامل. إنعكس هذا على صحتها. هزُل جسمُها وتجعّد وجهُها وانحنى ظهرُها وابيضَّ شَعرها بعد أن طلّق الصباغَ فبدا وكأنّ غبارَ الدهر كلّه قد تراكم عليه. لكنّها ما لبثت ان تذكرت بيتيّ شعر، كانت قد تعلمتْهُما في المدرسة الثانوية، وطفقت ترددهما في ازماتها، قائلةً : "ولرُبّ نازلة يضيق بها الفتى/ ذرعا وعند الله منها المخرج"، "ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها/ فُرجت وكنتُ أظنُّها لا تُفرج"، فاستمدت منهما املا، ما لبث ان تحقّق عندما رأت (سميرة) الطبيبَ مقبلا عليها وهو يبتسم قائلا لها: "لقد وجدنا متبرعا ملائما ذا فصيلة دم وانسجة مماثلة لإلياس تماثلا، بلغ حدَّ التطابق، قلّما نجِدُ مثله في عالم الطبّ، حتى بين الاشقاء". ملاحظة الطبيب استفزّت ذاكرةَ سميرة واستقرّت عميقا في قلبها واحاسيسها....
بعد ان تمّت عمليةُ زرع النخاع واستيعابه بنجاحٍ منقطع النظير، وبعد ان اخذت صحةُ إلياس بالتحسن بصورة ملحوظة، طلبت سميرة ان تتعرف على المتبرِّع لتشكره. فهمت من الطبيب أنّ المتبرع ربما قد اصبح خارج البلاد لمتابعة دراسة الطبّ سنة سادسة في ايطاليا. شعرت بخيبة أملٍ كبيرة، فقالت: "على الأقل ما اسمه يا دكتور؟ وكم عمره؟". تناول الطبيب ورقة كانت امامه على الطاولة، ليقول لها: "إسمه أحمد وتاريخ ميلاده 28 تشرين الاول(اكتوبر) 1956 ". هذا التاريخ بالذات، هزّ ذاكرة سميرة واثار فضولَها، فاصبحت اكثرَ إصرارا على لقاء المتبرع. سارعت الى الاتصال هاتفيا به، لكنها لم تحصل على جواب. قالت بحسرة: "يا خسارة، يبدو انه قد سافر فعلا قبل أن اراه"، ثم قفلت راجعةً الى غرفة إبنها. لاحظت أنّ قنينة المصل ستفرغ قريبا، فاستدعت ممرضا....

كانت سميرة بجانب سرير إلياس كعادتها، عندما دخل الى الغرفة شابٌ لم تتبيّنْ ملامحَه كاملةً، بسبب القناع الطبيّ المفروض على كل من يدخل غرفة الياس، فظنّت أنّه الممرض المطلوب. ادركت سميرة غلطتها، عندما سمعتْه يقول: "الحمد لله على سلامتك يا إلياس، انا المتبرع أنا احمد". شعرت سميرة ان قلبها يسبقُها اليه، وبحركة لا شعورية تقدمت نحوه بذراعين مفتوحين لاحتضانه، إلا أنها تمالكت نفسها في آخر لحظة، فاكتفت بمصافحته بحرارة.....

عندما همَّ احمد على مغادرة غرفة إلياس بعد ان اطمأن على سلامته، رافقتْه سميرة، لا تعبيرا فقط عن شكرها وتقديرها له، إنما طمعا ايضا برؤية وجهه كاملا. فما أنْ نزَعَ أحمد القناعَ الطبيَّ عن وجهه، حتى لاحظت سميرة التشابهَ الكبير بين سحنتي الياس واحمد، كما لمحت على طرف الحاجب الايمن لأحمد، ذات الشامة التي كانت تبحث عنها. قالت لنفسها ان هذه الشامة تنتصب الان شاهدا حيّا ثالثا الى جانب الشاهدين الاخرين وهما التشابه الجليّ بين سحنتي الياس واحمد من جهة، والتطابق المثير بين فصيلتي دمهما وانسجة جسميهما، فكادت تصرخ: "وجدتُه وجدتُه، نعم وجدتُ إبني الذي فقدتُه قبل ربع قرن". لكنّ حرصها على احمد جعلها تسيطر على اعصابها، وتنجحُ في إخفاء مشاعرِها تحسّبا من ان يكون (أي احمد) لا يعرف انه مُتبنًّى، فيُقلب عالمُه رأسا على عقب.

أخذت سميرة تستدرجه في الحديث، شاكرةً إيّاه على إهدائها حياةً جديدةً لابنها الوحيد، ومضيفةً بصوتٍ كسيرٍ: "خصوصا بعد ان كنتُ قد رضختُ لظروف صعبة جدا جعلتني افقدُ ابني الاول". نظر اليها أحمد باستغراب شديد مردّدا:" ظروف جعلتكِ تفقدين إبنك؟!!". قالت سميرة بثقة: "نعم ظروف صعبة للغاية سلبت إرادتي آنذاك، فاضْطرتْني ان اتنازل عن ابني الاول واعطيه للتبنّي مباشرة بعد ولادته". كان احمد وهو الشاب النبيه المتعلم المشرف على مرحلة التخرج من كلية الطب، يدرك جيدا ما معنى ان يكون هو شبيها بإلياس سحنةً وفصيلةَ دمٍ وانسجةً، لكنه اراد مع ذلك، ان تكون الادلةُ قاطعةً بصورة نهائية، فسأل سميرة متلهفا، عن تاريخ ميلاد ابنها المفقود. عندما سمعها تقول: "عشية حرب 1956، وتحديدا في 28 تشرين الاول (اكتوبر)"، فَقَدَ السيطرةَ على مشاعره، فامسك يديّ سميرة، قائلا لها بانفعال شديد جدا: "منذ ان فقدتُ والدايَّ بالتبني في حادث طرق مريع، قبل نحو ثلات سنوات، وانا ابحثُ عن والدتي وها أنا اجدُكِ" وغاب كل منهما بين ذراعي الاخر تاركا لدموعه متابعة الحديث...وتاركا، فيما بعد، للصحافة تغطيةَ هذا الحدث المثير عن "الام التي كادت تفقد ابنا فربحت ابنين في آن واحد" وعن جوابها الحاسم "هل أنتِ الان أمُّ إلياس أمْ أمُّ أحمد؟" قالت "أنا أمُّ الإثنين".

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة