الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 22:01

لماذا لا بد للعدل والفكر من مَأسسة؟/ بقلم: محمد إبراهيم قدح

كل العرب
نُشر: 16/08/16 16:03,  حُتلن: 14:20

محمد إبراهيم قدح في مقاله:

لأن عصر النبوة والمعجزات انتهى، ولأن واقعنا مركب بظروفه ومتطلباته، فلا بد من البحث عن سبيل العدل وكيفية ترسيخه وعن كيفية تذويت القيم والمبادئ وجعلها جزء من نظام الحكم.

سأحاول في مقالي هذا إثبات الادعاء بأن مهنية الشخص ومصداقيته -اللتان لا غنى عنهما- لا تكفيان وحدهما لضمان عدل واستقامة، وأن ايمان الرئيس بمبدأ لا يكفي لتطبيقه بين مرؤوسيه

لماذا علينا اعتماد الديمقراطية. لكن ما أحاول إثباته هو: لماذا وجود حاكم يمتاز شخصيا بعدله وحسن سيرته لا يكفي ليكون حكمه عادلا، ما لم يعتمد نظما وآليات تفضي إلى ذلك؟

طبيعة الأحزاب الديمقراطية التي تفتح باب الانضمام اليها قد تمكن أصحاب مآرب شخصية من الانخراط في صفوفها والترشح من خلالها

أشخاص مثل أولئك ليست لديهم القناعة الفكرية التي يقوم عليها الحزب، ومع ذلك يتقدمون داخله


كلما نتوق لعدل الحكم واستقامة الحاكم نستحضر على الفور سيرا تاريخية عن الفاروق عمر وعن الملك الذي لايظلم عنده أحد. ويهيّأ لنا أن الحل يكمن ولادة خارق على شاكلتهم، يقيم العدل ويحكم بالقسط.

لأن عصر النبوة والمعجزات انتهى، ولأن واقعنا مركب بظروفه ومتطلباته، فلا بد من البحث عن سبيل العدل وكيفية ترسيخه وعن كيفية تذويت القيم والمبادئ وجعلها جزء من نظام الحكم. تجدر الاشارة على أنه لو راجعنا التاريخ لوجدنا أن عدل أشخاص مثل عمر ما قام بالأخلاق وحدها، وإنما اتخذت خطوات وأقرت نظم في سبيل بلوغه كاستقلال القضاء وتوزيع المهام بين الولاة والدواوين الخ..

سأحاول في مقالي هذا إثبات الادعاء بأن مهنية الشخص ومصداقيته -اللتان لا غنى عنهما- لا تكفيان وحدهما لضمان عدل واستقامة، وأن ايمان الرئيس بمبدأ لا يكفي لتطبيقه بين مرؤوسيه. قل ذلك في الأحزاب وسلطات الحكم المحلية والمركزية.

من هذا الادعاء أشتق إدعاء يليه ويكمله، بأنه لا بد من وجود وسائل ومعايير مهنية وإدارية (نحو توزيع مهام العمل وصلاحيات اتخاذ القرارات وغيرها)، في مرحلة الحكم وماقبله (على المستوى الحزبي)، تضمن ترسيخ قيم العدل وغيرها من المبادئ المنشودة.

في مرحلة الحكم
قد يكون ما أردفه هنا بمثابة إجابة على السؤال: لماذا علينا اعتماد الديمقراطية. لكن ما أحاول إثباته هو: لماذا وجود حاكم يمتاز شخصيا بعدله وحسن سيرته لا يكفي ليكون حكمه عادلا، ما لم يعتمد نظما وآليات تفضي إلى ذلك؟
-لأنه إنسان ولأنه المنصب. فمن طبيعة البشر أن تغريهم المناصب وتغيرهم، فإذا لم يكن ما يضمن أن يلتزم الحاكم صلاحياته ولا يتعداها، فلن تردعه سيرته الحسنة من إساءة استخدام النفوذ، بحسن نية على أقل تقدير.
-لأنه المال الذي يصبح تحت تصرفه، ولأن طبيعة الانسان الضعف أمامه، إذا لم تكن مؤسسات رقابة تكبح جماح الحاكم وتحاسبه.
-لأن الخطأ وارد ومرشح للازدياد كلما زاد العمل. فلا بد من وجود مؤسسات مهنية ترشد الحاكم وتسدي إليه النصيحة وتلفت نظره إلى ما غفل عنه.
-لأن قدرة الحاكم الفرد في تذويت العدل بين مرؤوسيه والتربية على قيم نبيلة هي قدرة محدودة، ما لم يؤسس لمعايير وسبل مهنية تكفل ذلك.
-لكي لا يمرض العدل مع مرضه، ولا تهرم المبادئ لهرمه ولا يموتان معه. فخلق الحاكم وضميره في أحسن الأحوال قد يسمحان بإقامة عدل مؤقت وقناعة مؤقتة بفكره وكلاهما يزولان مع زواله. بينما إذا أقيم ذلك وفقا لمعايير وأسس يبقى إرثا متناقلا عبر الأجيال.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك جمال عبد الناصر، فقد سعى لاشتراكية والغاء الاقطاع دون الحرص على بناء نظام ديمقراطي يضمن ذلك. مع وفاته استبدلت القرارات بقرارات خصخصة وانتقلت المصانع إلى القطاع الخاص والاغنياء، والفقر المدقع اليوم يؤكد ذلك.

على المستوى الحزبي
قد يظن البعض أن ديمقراطية نظام الحكم وإيمان المرشح بقيم وطنية وسياسية معينة إضافة إلى حسن أخلاقه كشخص، يضمنان نزاهة حكمه و ترسيخ تلك القيم. دون الحاجة لمؤسسات حزبية ودستور يوزع مهام الرقابة الداخلية والاستشارة والادارة، فيكون الحزب بذلك أشبه بحملة يقودها المرشح بشخصه.
قد يفيد هذا في إضفاء صبغة الحازم القوي للمرشح، وتسويقه على أنه سيد قراراته غير الخاضع لأهواء ورغبات حزبه. في المقابل، نجد أن وجود منظومة رقابة واستشارة واتخاذ قرارات تساعد في تصحيح خطئه ولفت نظره و منع استبداده، وبذلك لا يكون الحزب حزب الرجل الواحد. وما الجدوى من ذلك؟
حزب الرجل الواحد كحكم الديكتاتور العادل، يفنى بفنائه، دون فرصة للتغيير وضخ دماء جديدة تتابع المشوار فيما بعد، فحزب كهذا لا يشجع أشخاصا جددا على الانضمام اليه لأنهم لا يرون فيه فرصة تقدم. وهذا لا يتيح وجود كوادر تعمل على إنجاح وصول الحزب إلى سدة الحكم.
كذلك فإن حزبا على هذه الشاكلة يربي الناشئة والأفراد داخله على الاخلاص للزعيم، مغلبين ذلك على الولاء لأي من القيم والمبادئ سواء القومية أو اللبرالية أو الدينية...
في العام 2005 انشق اريئيل شارون عن حزب الليكود وأعلن تأسيسه حزب كاديما. حينها خسر الليكود الانتخابات لصالح الحزب الجديد. لكن بعد سنوات عاد الليكود ليتصدر المشهد فيما انمحى كاديما عن الخارطة السياسية كليا. في نظري يرجع هذا إلى أن الليكود حزب مؤسسات له كوادره وجماهيره العريضة، وكل ذلك يضمن استمرارية الحزب وعدم زواله برحيل شخص أو تركه للسياسة.
اليوم ظاهرة حزب الرجل الواحد تتكرر بعد عهد شارون، ونلحظها في أحزاب مثل "كلنا" و"يش عتيد"، وقد سبقتها تجارب أخرى مشابهة. أحزاب كهذه تنجح في مرحلة ما، تضعف من قوة الأحزاب التقليدية وتحصل على كم لا بأس به من الأصوات والمقاعد، لكنها تتلاشى بعد سنوات. فيما تحافظ الأحزاب المؤسساتية الكلاسيكية مثل العمل والليكود على استمراريتها.

نقطة أخرى هامة - خطر التسلق! فطبيعة الأحزاب الديمقراطية التي تفتح باب الانضمام اليها قد تمكن أصحاب مآرب شخصية من الانخراط في صفوفها والترشح من خلالها. أشخاص مثل أولئك ليست لديهم القناعة الفكرية التي يقوم عليها الحزب، ومع ذلك يتقدمون داخله.
إذا لم تكن للحزب مؤسسات تكبح جماحهم وتمنع تسلطهم قد يعني ذلك نهايته. في المقابل، حزب المؤسسات قد يتضرر من ظاهرة كهذه، لكنه سرعان ما يستعيد عافيته. ولعل أحدث الأمثلة على ذلك المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي يحرج بتصريحاته و مواقفه المثيرة للجدل أوساط ونخبا داخل حزبه، ومع ذلك فإن عواملا عديدة مثل كثرة المتنافسين في الانتخابات التمهيدية للحزب أتاحت ترشيحه. قد يضر ذلك بالحزب وقد يؤدي إلى خسارته، ولكن حزبا مثل الحزب الجمهوري بدستوره ومؤسساته يسهل عليه تصحيح المسار بعد ذلك.
خلاصة القول: على مستوى الأحزاب وعلى مستوى سلطات الحكم، عدل الفرد وإيمانه بمبادئ معينه لا يضمنان تذويتهما دون اعتماد وسائل وقيم إدارية سليمة من رقابة ومؤسسات استشارة وآليات توزيع مهام واتخاذ قرارات. فالعدل والفكر لا يقومان إلا بمؤسسات تقومهما، لذا لا بد للعدل والفكر من مَأسسة!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة