الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 09:02

صخرة الإيمان... والإناء المصطفى/ بقلم: الأب إبراهيم داود

كل العرب
نُشر: 29/06/16 14:25,  حُتلن: 14:28

الأب إبراهيم داود في مقاله:

بطرس كان غريبًا في مواقفه وتصرفاته متقلبًا لا يثبت على حال

لا يذكر التاريخ أن شخصًا عمل لقضية المسيح وكرس نفسه لخدمته ولنشر الانجيل مثل بولس فهو الجندي الغيور المقدام والمجاهد حتى الموت

القديسان المجيدان بطرس وبولس – هامتا الرسل
تعريف: يصادف اليوم، التاسع والعشرون من حزيران، عيد القديسين بطرس وبولس. وبهذه المناسبة العزيزة، نعيد هنا نشر مقالة حول القديسين بطرس وبولس كتبها الأب ابراهيم داود ـ كاهن قرية المكر ـ في العام 1994.
لا يستطيع كاتب مهما بلغت مقدرته أن يفي هذين الرسولين العظيمين حقهما، أو أن يُجمل دور كل منهما في تأسيس الكنيسة الرسولية المقدسة وتثبيت الايمان بالمسيح. وطبيعي جدًا أن لا أستطيع أنا أيضًا في هذه العجالة تغطية كل ما يتعلق بأميرَيْ الكنيسة، بطرس صخرة الإيمان، وبولس الإناء المصطفى ورسول الأمم. لذلك، سأكتفي بتسجيل أبرز ما يتعلق بكل منهما، مستعينًا ببعض ما كتبه الباحثون والآباء حول حياة هذين الرسولين العظيمين.

1. القديس بطرس، سمعان ابن يونا
يخبرنا انجيل معلمنا القديس متى، انه لما جاء يسوع الى نواحي قيصرية فيلبس (وهي بانياس الحالية في هضبة الجولان السورية)، سأل تلاميذه قائلًا: من تقول الناس أن ابن الانسان هو؟ فقالوا: قوم يقولون إنه يوحنا المعمدان، وآخرون إنه ايليا، وآخرون إنه ارميا أو واحد من الأنبياء. قال لهم: وأنتم من تقولون إني هو؟ أجاب سمعان بطرس قائلًا: انت المسيح ابن الله الحي، فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا، فانه ليس لحم ولا دم كشف لك هذا، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات (متى 13:16 – 19).

سمعان بطرس هذا، صياد السمك الذي كان يعمل هو وأخوه اندراوس في القاء الشباك للصيد، دعاه يسوع هو وأخاه قائلًا: اتبعاني فأجعلكما صيادَيْ الناس. فتركا الشباك للحال وتبعاه. هذا الرجل يبادر للإجابة على سؤال يسوع للتلاميذ، قائلًا: "أنت المسيح ابن الله الحي". هذه الشهادة ليست من قدرة بشر. انها عمل الله في بطرس كما يوحي جواب يسوع المسيح له.

بطرس هذا، كان غريبًا في مواقفه وتصرفاته متقلبًا لا يثبت على حال. ها هو يقول للسيد: "لو تركك الجميع ما تركتك أنا" (متى 33:26) و"إني أبذل حياتي عنك" (يوحنا 37:13).

وعندما يلقى القبض على يسوع ويسلم الى دار الولاية، ينكره ثلاث مرات قبل بزوغ الفجر وصياح الديك!!! وها هو يؤكد له: "لو ضعف الجميع، ما ضعفت أنا"، لكنه لا يلبث أن ينام بينما يسوع يصلي قبيل أن يسلم، فيسأله يسوع: أتنام يا سمعان! أوَلم تقدر أن تسهر ساعة واحدة! (مر37:14).

وعندما كان بطرس يؤكد للمرة الثالثة انه لا يعرف يسوع، التفت اليه السيد، فتذكر بطرس كلام الرب، ومضى الى الخارج وبكى بكاء مرًا (لو60 – 62). مسكين بطرس! يسقط أمام جارية وينكر ربه وإلهه، كانت خطيئته عظيمة ولأجل هذا خرج وبكى بمرارة بعد أن تذكر كلام يسوع.

ويخبرنا التقليد أن بطرس لفرط دموعه على خطيئته، حُفرت خطوط كجداول ماء على خدّيه الى آخر حياته... وها هو يطلب الى يسوع بعد القيامة أن يبتعد عنه لأنه رجل خاطئ.

لكن السيد له المجد يعلم جيدًا ما يفعل، فهو أمين على اختياره لبطرس، وها هم الملائكة يقولون لحاملات الطيب: "اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس" (مر16:7)...

وها هو بطرس يجيب السيد بتواضع وثقة: "يا رب! أنت تعرف كل شيء وتعرف انني أحبك".

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "إن الرب سمح بعثرة بطرس عمود كل الكنائس ومرفأ الايمان ومعلم المسكونة، هذا الذي ستسلم الكنيسة لرعايته، لكي تعلمه هذه العثرة أن يعامل الآخرين بالرحمة". (عظة في مدح القديس بطرس).

بطرس هذا، الذي يكلفه السيد بأن يرعى خرافه ويثبت أخوته، يقف بعد صعود الرب الى السماء في وسط اخوته، ويطلب اليهم أن يختاروا رسولًا بدل يهوذا الذي سقط... وبعد حلول الروح القدس على التلاميذ في العنصرة، وادعاء بعض الحاضرين بأنهم امتلأوا سلافه، أي كانوا سكارى، يقف بطرس ليلقي خطبته الاولى، فتنصدع قلوب الرجال، وينضم الى الكنيسة في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (أع 41:14:2).

بطرس هذا الذي لا يملك فضة ولا ذهبا، يعطي مُقْعَدَ الباب الجميل ما هو له. "باسم يسوع المسيح الناصري، قم وامش!" يقول له، فتتشدد رجلاه وعقباه وينتصب ويمشي يسبح الله (أع 6:3 – 8).

ويكمل بطرس مشواره التبشيري بالمسيح، ها هو أمام رؤساء الكهنة وشيوخ اليهود يخبرهم بجرأة: "إنا لا نقدر أن لا نتكلم بما عاينا وسمعنا، إن الله أحق بالطاعة من الناس"، فيلقى القبض عليه وعلى اخوته ويُجلَدوا وتتعرض الكنيسة للاضطهاد والملاحقة، لكن بطرس يظل يطوف في جميع النواحي والأطراف يثبت اخوته. ها هو يزور اللد ويشفي اينياس المخلع فيرجع الساكنون في اللد والشارون الى الرب (أع 32:9 – 35). وفي يافا يجثو على ركبتيه ويصلي لتقوم طابيتا الصبية من بين الأموات. فيقيمها حية لديهم ويؤمن كثيرون بالرب. وها هو في قيسارية يصل الى النتيجة العظيمة: "أو يستطيع أحد أن يمنع ماء العمودية عن هؤلاء الذين نالوا الروح القدس"؟ قاصدًا بهؤلاء المؤمنين من غير اليهود. فيأمر أن يعمَّدوا باسم يسوع المسيح (أع 47:10 -48). ويعود الى اورشليم ليعلن أمام أهل الختان المؤمنين من اليهود الذين خاصموه على موقفه هذا: "إنْ كان الله قد أعطى الأمم نظير الموهبة التي أعطانا... فمن أكون أنا حتى أمنع الله؟" (أع 17:11).

ويذوق بطرس السجن والجلد والاضطهاد، ويخرجه الرب من السجن بعد أن تسقط القيود عن يديه.
وحوالي العام 50 للميلاد يعقد المجمع الأول في أورشليم، فيقف بطرس ويؤكد على موقفه من قضية ايمان الأمم وقبولهم إلى المسيحية بدون تهويدهم أولًا. يقف بطرس الى جانب بولس رسول الأمم وبرنابا. ثم يعود هذان الى انطاكية ويلحق بهما بطرس بعد حين. وهناك ينشب خلاف شديد بين الأخوين سنتطرق اليه بعد الحديث عن بولس الرسول.
إن بطرس يختفي من أسفار العهد الجديد بعد حادث الخلاف مع بولس وكل ما تبقى لنا من آثار هو رسالتان منه تدلان على انه انحاز نهائيًا لتعاليم بولس في الخلاص والفداء الشامل من غير قيد ولا شرط. ويظل الرسولان اخويْن متحابيْن بعد هذا، ليمضيا في نفس العام (67 م) الى شهادة الدم من أجل المسيح، فيصلب بطرس مقلوبًا، أي رأسه الى أسفل حسب طلبه، لأنه لا يستحق كما يعتقد أن يموت كما مات المسيح مصلوبًا ورأسه الى أعلى!

2. بولس الطرطوسي (الطرسوسي) – رسول الأمم (شاول)
نشأته ومكانته: نشأ شاول في طرطوس من أعمال كيليكية التي كانت واقعة في جنوب آسيا الصغرى، وهي مدينة المتاجر الواسعة والحضارة الوثنية، التي كانت تنافس الاسكندرية وأثينا من حيث الحضارة والثقافة. فمن طرطوس كان مربو القياصرة وأمراء الأسرة المالكة في روما. ومدينة كهذه كان لا بد لها أن تطبع ختمها الخاص في نفس الرسول وشخصيته الروحية. ففيها كان يجتمع الفكر اليوناني والشرع الروماني والعصبية اليهودية وطريقة الحياة الهلينية بمظاهرها الرياضية المتنوعة. ولا شك أن تأثير هذه البيئة وطريقة تفكيرها كان بليغًا بعيد المدى في عقل بولس وكتاباته وتعابيره واستعاراته، كذلك فقد كان بولس مطلعًا على أسرار اللغة اليونانية، لغة العلماء ولغة الشعب البسيط الذي كان يحتك به من غير أن ينتمي الى احدى مدارس ذلك العصر.

هذه الثقافة العامة الواسعة سوف تساعده فيما بعد أن يكون الواعظ المختار لدين يفوق كل الأجناس البشرية والطبقات الاجتماعية. لذلك لا يتردد بولس في أن يقول: "كنت مع اليهود يهوديًا، ومع اليونان يونانيًا، وصرت كلا للكل لأربح الجميع" (1 كورنتوس 20:9).

وكان أبوه من أشد الفريسيين تمسكًا بالناموس، فعلمه لغة أجداده – لغة التوراة وسنن الشيوخ والتقاليد والرسوم التي تفرضها هذه التقاليد. وفي سن الخامسة عشرة أدخل الفتى مدرسة الهيكل الشهيرة في أورشليم، حيث كان الرابي جمليئيل يعلم تلاميذه، فتعلم الأسفار المقدسة كلها باللغتين اليونانية والعبرية. وهذا ما يفسر لنا كيف كان يكثر في رسائله من اقتباس نصوص الكتاب المقدس، فقد عُدّ منها في رسائله وخطبه نحو مائتي نص.
عظمته: إن بولس هو المسيحية. السيد له المجد علم وبشر، أما بولس فقد أرسى قواعد الايمان وأسس الكنيسة في اطار عقائدي وعلمي ولاهوتي. المسيح هو كل شيء بالنسبة لبولس. "أنا حيّ لا أنا، بل المسيح حيّ فيّ". ان الروح القدس شرح المسيحية بواسطة بولس، وإلاّ لبقيت ناقصة بدون هذا الشرح. فبولس هو الشاهد الأعظم والمفكر النابغة والرسول الذي تعب أكثر من الكل...

الانقلاب في حياة بولس:
يذكر لنا سفر أعمال الرسل أن شاول الطرطوسي (بولس الرسول)، كان واقفًا وموافقًا على قتل باكورة شهداء المسيح. القديس استفانوس (اسطفان) عام 33 م. (أع 58:7). ولا شك في أنّ استشهاد القديس استفانوس ذي القلب الملتهب الشجاع، قد أثر على بولس الشاب كثيرًا، وظلت صورة هذا الشهيد الذي رجمه اليهود حتى الموت مثل خميرة في مخيلة بولس... وبعد هذه الحادثة المروعة، عزم بولس على السفر الى دمشق يحمل معه رسائل الى مجامعها اليهودية، لاضطهاد أتباع يسوع الناصري هناك. (أع 2:9). وفيما هو ماضٍ وقد اقترب من دمشق، أبرق حوله بغتة نور من السماء، فسقط على الارض وسمع صوتًا يقول له: "شاول شاول لماذا تضطهدني؟" فقال: من أنت يا رب قال: "أنا يسوع الذي تضطهده". ثم طلب اليه الرب أن ينهض ويدخل المدينة. فنهض عن الارض ولم يكن يبصر، ولا يأكل ولا يشرب. (أع 3:9 – 9). وفي دمشق يوحي الرب الى تلميذ اسمه حنانيا أن يذهب الى بولس ويضع عليه يديه لكي يبصر. ها هو السيد يقول لحنانيا: "ان هذا لي أداة مختارة ليحمل اسمي أمام الأمم والملوك وبني اسرائيل، واني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي". فيمضي حنانيا ويضع يديه على بولس، وفي الحال يقع من عينيه شيء كأنه قشور فيبصر ثم يعتمد ويمتلئ من الروح القدس. (أع: 10-18). ثلاثة أيام يظل شاول كفيفًا لا يبصر، ثم تسقط القشور من عينيه، يسقط الغشاء بعد أن "يموت" لمدة ثلاثة أيام، ليقوم محملًا بالمسيح وممتلئًا بالروح القدس.

بداية التبشير بالمسيح: يخبرنا رسول الأمم انه بعد هذا الانقلاب العجيب وسقوط القشور القديمة، قضى حوالي 3 سنوات في ديار العرب، بعد أن دُلِّيَ عن أحد أسوار المدينة، ونُقِل إلى ديار العرب للتأمل والخلوة والتهيؤ للحياة الجديدة. ولا شك أن نفسه بعد اهتدائه، اندفقت عليها موجة سكينة وعذوبة تختلف تمامًا عن برودة الفريسيين وتحفظهم. لقد اضمحلت فيه المنافع الأرضية أمام الهدف الأسمى الجديد، وصعد بعدها الى أورشليم، فأخذه برنابا الى الرسل، وبدأ يبشر باسم الرب بجرأة، ولما بات التهديد بقتله جديًا أُرسل بولس الى قيصرية ومن هناك الى طرطوس. ويخبرنا كتاب أعمال الرسل أن برنابا انطلق الى طرطوس في طلب بولس ولما وجده أتى به الى أنطاكية، فظلا هناك يعلّمان مدة سنه كاملة، حيث دُعِيَ التلاميذ هناك "مسيحيين" حوالي العام 42 م.

لا يذكر التاريخ أن شخصًا عمل لقضية المسيح وكرس نفسه لخدمته ولنشر الانجيل مثل بولس. فهو الجندي الغيور المقدام والمجاهد حتى الموت. ها هو مدة ثلاثين سنة لا يهدأ له فكر ولا حال... ينتقل ويبشر، يعظ ويؤسس الكنائس، يذهب ليعود، يؤسس كنيسة ويتركها ليؤسس أخرى، ثم يعود ليزورها ويطلع على أحوالها، يكتب الرسائل تلو الرسائل، وكلها تحوي تفضيلًا وتدريبًا وتنظيمًا للحياة المسيحية.

كل هذا وبولس مريض بالجسد... "أُعْطِيتُ شوكةً في الجسد... لئلا استكبر" يقول. يعمل ليأكل ويعيش... يجوع ويعطش، يطارد ويجلد، يسجن ويضرب بالعصا، يرجم وتنكسر به السفينة ثلاث مرات. يبرد ويعرى... لكنه لا يكل ولا يمل... من يضعف ولا يضعف بولس... من يشكك ولا يحترق بولس وبماذا يفتخر ان كان لا بد من الافتخار؟ "اني أفتخر بما يخص ضعفي" يقول، لتستقر عليه قوة المسيح. ويدفعه الايمان العظيم بيسوع المسيح الى كل مكان... لا يهدأ ولا يُثنيه شيء عن قصده ومحبته. يخرج في رحلات ثلاث يجول ويصول في قبرص وانطاكية وفيلبي وتسالونيكي واثينا وكورنثوس وافسس ورودس وكريت ومالطا وغيرها... وكم يلاقي من صعاب ومقاومة... لكنه ينجح وترتفع في كل هذه البقاع صلوات التسبيح ليسوع المسيح بعد أن كانت مذابح الأوثان منتشرة في كل مكان.

أما روما، فكانت محط أنظار بولس. كان هذا الرسول يتمتع بِحَصانَةٍ قانونيّة رومانية كونه مواطنًا رومانيًا... فيصلها مقيدًا، لكنه هناك بدأ يبشر بعد أن خُففتْ قيوده، وأُلزِمَ بسجن منزلي. وتسرب الانجيل الى البلاط في روما والى قصور الأغنياء. ثم يقيّد ويقتاد الى السجن ثانيةً خصوصًا بعد أن حَرَقَ المَعتوهُ نيرون روما، واتهم المسيحيين بذلك بتشجيع من المجمع اليهودي هناك. ويكتب الى تيموثاوس قائلًا: "لقد جاهدت الجهاد الحسن، وأتممت السعي، وحفظت الايمان، فلا يبقى لي الا إكليل البر المحفوظ لي والذي سَيَجزيني به الرب الديان العادل..." (2 تيموتاوس 7:4 – 8).

بولس ينتظر الساعة التي تراق فيها نفسه لأجل نفس مُخلّصِهِ وبعد يومين من صلب بطرس عام 67 م، تقطع هامته، وتنفجر في ذلك الموضع ثلاثة ينابيع كما تقول الرواية. وهكذا ينطفئ هذا الشعاع العظيم، صاحب النفس الجبارة والعقل الثائب، والعاطفة القوية والارادة التي لا تعرف التردد أو الضعف.
3. مسألة الخلاف بين الرسولين العظيمين بطرس وبولس
كان القرار الرسولي الذي اتفق عليه في مجمع أورشليم العام 50 م، حلا وَسَطًا بين وجهتَيْ نظر متناقضتيْن، حول مسألة قبول الأمم (الوثنيين) الى الكنيسة دون الاختتان حسب شريعة موسى... وكان هذا القرار قد خلق في الواقع موقفًا غير صريح وغير مفهوم... وبعد عودة بولس وبرنابا الى انطاكيا من أورشليم، يصل بطرس الرسول اليها في جولة رسولية يرافقه تلميذه يوحنا - مرقس... وهناك يسرّ كثيرًا بما لقيه عند المؤمنين الأنطاكيين المتنصّرين من الأمم من ثقة مطلقة وروح طيبة. وقد دفع هذا الوضع بطرس الرسول في بادئ الأمر الى مخالطة هؤلاء وقبول دعواتهم ومشاركتهم دون تمييز. وفي ذلك كله كان يسلك بروح واسعة غير مكترث بموانع الشريعة الموسوية.

واذا بمجموعة من أورشليم يرسلها يعقوب الرسول تصل أنطاكية لمراقبة سلوك بطرس وعلاقاته مع "الأمم". ويلاحظ بولس، أن بطرس من باب المسايرة ينحاز الى هذه المجموعة المتحفظة، ويرفض دعوات الأمم لتناول الطعام معهم بحجج وتبريرات واهية. فيغتَمّ بولس لهذا الموقف المهتز المُتلوِّن، ويزداد غمُّهُ عندما يرى زميله برنابا يقف هو الاخر موقف المتذبذب المتردد المنحاز. ويتألم مع بولس جماعة الأمم التي رأت في سلوك بطرس اهانة لها واعتبارهم مسيحيين من طبقة أدنى من فئة المتنصرين من اليهود.

ولم يوافق بولس على هذا الموقف الشاذ. لذلك صمم أن يخوض المعركة وأن يثير الخلاف علنًا، فهو في شؤون الرسالة والتعليم لا يصغي الى اللحم والدم ولا الى الاعتبارات الشخصية وكان الخلاف شديدًا وحادًا بين الرسوليْن. لقد أنكر بطرس عمليًا ما يعتقد فيه بالداخل... فبتظاهره بالتسامح ومراعاة الخواطر، يكون قد هضم حقوق الفريق الاخر من المسيحيين وجعل الايمان في خطر، وخطر شديد محدق.

ونتيجة لهذا الموقف المبدئي العظيم لبولس الرسول، يذعن بطرس وبرنابا ويعترفان بخطئهما بشهامة وعزة نفس كما يليق بالقديسين. ويمحو موت الرسولين الاستشهادي كل الآثار المحزنة لهذا الخلاف الجوهري بينهما. ويظل الرسولان كما في حياتهما، كذلك بعد موتهما، أخوين قريبين متحابين متساويين، رغم كل الخلاف. فقد شعر بطرس أن يسوع قد تكلم بفم بولس ولذا فإنه لا يتردد لحظة أن يعترف بخطئه أمام الجميع، واقتناعه بصحة أقوال وبراهين بولس – الأمر الذي دفعه فيما بعد لكتابة رسالتين تدلان انه قد تبنى نهائيًا تعاليم بولس أخيه في الخلاص والفداء.

ملاحظة: لكتابة هذا المقال استعنت بالكتب والمراجع الآتية:1. العهد الجديد؛ 2. كتاب بولس الرسول لمؤلفة جوزيف هولزفر، ترجمة المثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع بطريرك مدينة الله العظمى أنطاكية؛ 3. المواد المنشورة في الجزء الثاني من كتاب "انجيلك نور لحياتي" للأب الياس كويتر ص 1404 – 1442.

المكر

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة