الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 17:02

ظل الله في الأرض/بقلم:مصطفى عبد الفتاح

كل العرب
نُشر: 10/02/16 22:45,  حُتلن: 07:28

 
مهداة لأطفال سوريا أينما هم

سادت امامه حالة من الفوضى العارمة، فقد اختلط الحابل بالنابل، وعمت فوضى لا يمكن تجاهلها، دون أن يكترث مسعود لما يدور حوله، نظر الى الفوضى التي خلفها امامه بشيء من الرضا والكثير من اللامبالاة، شعر بالاعتزاز بالذات التي تستطيع ان تفعل ما يحلو لها ما دامت الصحة جيدة وما دام الجيب منتفخا بالنقود، هذا الشعور دفعه الى منح عضلات جسمه إجازة كاملة من الاسترخاء تبعتها حالة من الخمول الذي لا يقاوم.
تمدد امامه هيكلا عظميا بكامل هيئته وبتمام صورته، الا اجزاءا صغيرة منه تناثرت في كل الاتجاهات، اما الراس فقد بقي كما هو بلحمه وعظمه، بلونه المائل الى الصفرة رغم احتراقه بالزيت الذي يعطيه لمعانا وبريقا غريبين، حتى هذه العيون المتفحمة الغائرة في تجاويف راسه المستطيل ما زالت واضحة المعالم تتحدى عنجهيته وتتوسله البقاء.

رفع راسه المتثاقل قليلا، جال بنظره النعس في ارجاء المكان، كانت خيوط النور تتسلل الى عينيه عنوة، فيرى خيالات اشخاص يروحون ويجيئون دون ان يعير أحد أحدا أي اهتمام، الا أصواتا قليلة تتسلل الى اذنيه عنوة فلا يفهم منها شيئا، شعر ان المكان بهدوئه وجماله الاخاذ يمنحه فرصة ليفهم خبايا التاريخ وينفض غباره ويستعيد ذاكرته الأولى دون تدخل من أحد او ولاء لاحد.
زحفت مؤخرته الى حافة الكرسي الذي يجلس عليه، مد رجليه امامه على قدر استطاعته شادا اوتارها المتعبة بفعل السير الطويل في شوارع إسطنبول طيلة النهار، أعاد ظهره الى اعلى الكرسي، مد يداه الى خلف راسه، شبكهما معا وشدهما بقوة، نظر بعينيه الى البعيد يسترجع أفكارا وينسج احلاما.
منذ ان غادر الفندق في ساعات الصباح، سارت به شوارع المدينة في كل الاتجاهات، ما يكاد ان يستقر نظره على منظر جميل جذاب حتى يحوله الى مكان أجمل وارع من سابقيه، يحاول ان يستجمع ما استطاع من معلومات تاريخية لينسج من خيالاته ما استطاع من صورة لهذه المدينة الرائعة، كانت قباب المساجد والقصور الملكية والسلطانية منتشرة في كل مكان تحكي قصة مدينة إسلامية تنتصب كالمارد على حدود الشرق والغرب، الى ان مرضت وشاخت على البوسفور، تحكي روايتها بصدق ويحاول سلاطينها الجدد ان يعيدوا مجدهم الضائع فيعيثون في الشرق فسادا.
بعد ان تعبت قدماه، وبدا عموده الفقري يضغط على جسمه، وتصبب العرق من جسمه، قادته شوارع المدينة الى قصر السلطان، عند باب القصر السلطاني توب كابي ساراي، تمتم بينه وبين نفسه:
- اقسم بالله العظيم انه لو عاد السلطان محمد الفاتح بكامل جلاله وعظيم مقامه وتركناه في شوارع المدينة هذه لضل الطريق ولما استطاع ان يعود الى قصره هذا.
استوقفه اعلى باب القصر السلطاني، نقش ذهبي لافت من النقوش الكثيرة التي تزين القصر، وتترك الانطباع بعظم وضخامة المكان كتب فيه:
"السلطان ظل الله في الأرض"
بعد ان قرا هذا النقش الذهبي على باب القصر، لم يفاجئه ما رأى من الجاه والمال، الذهب والفضة، اللؤلؤ والمرجان والياقوت والغنى الفاحش والكنوز التي نهبوها من الشرق المسكين، خاطب نفسه وهو مبهور بما يرى:
- لا شك ان هذه الكنوز وهذه المكنونات، هي من أفقر الشرق وقضى على ثقافته وتقدمه وازدهاره، انها ملك اجدادنا وابائنا الذين ما زالوا يعيشون تخلف الشرق وغارقون في مستنقع الجهل.
تذكر مسعود قصة أبا الناجي ذلك الشيخ الجليل الطاعن في السن الذي التقاه قبل ثلاثين ، كان الشيخ يعمل سقاءا في قريته الصغيرة المنسية بفعل الفقر والجهل والعوز، يحرس عين الماء الوحيد في القرية ويملا الجرار للنساء مقابل مبلغ من المال يعتاش منه، كان مسعود يومها شابا في مقتبل العمر حين تنبه الى ان الشيخ أبو الناجي, رغم بساطة مظهره, يلبس سروالا ازرق تغطيه طبقة سميكة من الاوساخ الممزوجة بزيوت الماكينات , ترك لذقنه العنان فطال الشعر وزادت كثافته لتغطي جزءا كبيرا من وجهه الذي رسم عليه الدهر اخاديده , كان الشيح أبو الناجي يتقن العديد من اللغات الاوربية، رغم ان مسعود لم يلحظ ان الشيخ غادر القرية ولو مرة واحدة او تعلم في المدارس التي لم تكن موجودة أصلا ولا حتى في الكتاب الذي لم يتجاوز تعليم القراءة ولكتابة للغتنا الام وحين سأله:
- من اين لك هذه المعرفة باللغات وانا لم ارك تغادر قريتنا هذه ولو مرة واحدة يا أبا الناجي؟
تبسم الشيخ ونظر الى الأفق البعيد يسترجع ذكريات الماضي البعيد بل ذكريات حياته كلها، فاضت قريحته بالكلام ومسعود مصغ اليه بكل جوارحه قال:
- سأروي لك يا بني قصتي التي تختزل تاريخ الدولة العثمانية المستبدة والتي افقرتنا وجوعتنا بسبب ظلم حكامها وجور واضطهاد ضباطها وساستها لنا لأننا عرب.
- كنت شابا في مثل سنك، عندما جمع عساكر السلطان العثماني الجالس على العرش في إسطنبول شباب القرية عنوة رغم بكاء الأطفال وعويل النساء واستجداء الإباء والامهات ليتركوا الناس وشانها دون جدوى، اقتادوهم الى بر الاناضول لمحاربة القيصر الروسي في القرم على حدود الإمبراطورية العثمانية بما يعرف حتى اليوم بالسفر برلك، او السفر الى بر الاناضول، وقد كنت واحدا من هؤلاء المتاعيس.
كان الجوع والعطش والتعب والاهانات بالضرب والمسبات هما رفيقنا الدائم وكان سلاحنا الوحيد الشبرية والسيف وبعض البنادق التالفة التي لا تصلح حتى لصيد الحيوانات اما عدونا اللدود فقد كان البرد القارس والشتاء البارد الذي ينهش عظامنا دون ان تكون لنا أدني تدفئة او حماية من هذا العدو اللعين، جمعونا بأعداد ضخمة لا يمكن لاحد ان يسيطر على مثل هذه الاعداد من الناس واقتادونا الى القرم على حدود الإمبراطورية الشمالي، الى حرب لا ناقة لنا بها ولا جمل، لمواجهة الجيش الروسي القوي والمدرب والمحصن. لم يمض وقت طويل وكانت المعركة محسومة تفرق الجيش ايدي سبا، وتركنا الاتراك العثمانيون نلاقي مصيرنا المحتوم في بلاد لم نعرف عنها شيئا ولم نفهم ما يجري حولنا، وسار كل محارب في طريق يبحث عن نجاته كمن يبحث عن ابرة في كومة قش.


رغم كل شيء قررت العودة الى وطني, سرت حسب حدسي باتجاه ظننت انه سيقودني الى فلسطين, سرت ليلا ونهارا اكلت من الأعشاب البرية التي اعرفها والتي لا اعرفها كنت ادخل الى قرى غريبة حتى استأنس باهلها واتعرف اليها واطلب الماء والطعام من أهلها بعضهم كرماء ويستحقون الثناء فيقدموا لي بعض ما عندهم وفي بعض القرى كنت اتعلم لغاتهم حين استأنس في البقاء بينهم ,كان سؤالي الوحيد للقرويين الذين تعرفت اليهم : اين الطريق الى فلسطين، فيشيروا الى الطريق الذي يخرج من القرية ,باتجاه الشرق هكذا سرت حتى قطعت أوروبا كلها وفي كل دولة مررت بها تعلمت لغتها وتعرفت على عاداتها، مررت من مقدونيا الى رومانيا الى المانيا الى إيطاليا الى فرنسا ومنها الى اسبانيا ,عبرت مضيق جبل طارق الى المغرب والجزائر وتونس وليبيا وصولا الى مصر، هناك في مصر, وبعد اكثر من عشرين عاما عرفت انني في الاتجاه الصحيح الى فلسطين ومن هناك أكملت طريقي الى فلسطين الى بلدي، الى وطني، الى حبي الأول والأخير ,الى مرتع الصبا، الى الأقارب والأصدقاء والخلان، الى الراحة النفسية والجسمية، هناك سأكون سعيدا فوق التراب، وهناك سأصعد الى السماء من تحت التراب، هناك سأعيش اما عليها واما بها وفي كلتا الحالتين سأكون سعيدا. استغرقتني الرحلة أكثر من خمسا عشرون عاما في التيه، قضيت معظمها بالجوع والعطش والمرض حتى وصلت قريتي هذه وتريدني ان اتركها ولو للحظة يا بني.
كان مسعود مبهورا بما حدثه به الشيخ أبو الناجي، لم يستطع عقله حتى ان يتصور هذه الرحلة حول العالم مشيا على الاقدام، فقط من اجل ان يعود الى الوطن، فقط من اجل ان يعيش بحرية وكرامة، ان يعيش بجانب اهله وأصدقائه واقاربه وفي قريته المحبوبة.
لم يمهله الموت طويلا، فقد رحل بعد ان سرد لمسعود قصته بعام واحد ولكن قصة هذا الشيخ ظلت تلاحق مسعود في جميع مراحل حياته، يتذكرها كلما تحدث عن الوطن او عن أعداء الوطن، وكيف لا يتذكرها وهو يجلس هنا في حضن السلطان يجلس امام البوسفور يرقب الماضي والحاضر ويرسم المستقبل.

تنبه مسعود الى صوت خافت حزين يقترب منه، فرك عينيه اللتان كانتا ما تزالان تحدقان في مياه البوسفور، عدل من جلسته الاسترخائية وصوب نظره نحو الصوت الحزين الخافت الذي يقترب منه على وجل، وقف امامه صبيا في الثانية عشرة من عمره، وقد ارتسم على وجهه اخدودان عميقان عمق الحزن الذي يحمله بين اضلاعه الصغيرة، جراء غبار الطريق وقساوة الحياة وجبروت من ظلموه.
كانت عينا الصبي تنظران الى مسعود بحزن وتوسل تارة والى الطاولة الممدد عليها هذا الهيكل العظمي لسمكة كان قد التهمها مسعود قبل ان يسترخي في كرسيه ويتجول بفكره في عالم المدينة القابعة على البوسفور، فيتحول حزن وتوسل عينيه الى استجداء يكاد يكون صريحا لولا بقية من كرامة وشموخ وعزة نفس حملهما نيابة عن امته العربية التي تسبح في غارقة في دمائها.
فاض ريقه ودقت معدته جدران بطنه الخاوي فزاده الما، ورغبة في تناول أي شيء من الطعام حتى لو كانت بقايا هذه المائدة الدسمة التي ينظر اليها فلا يرى امامه غير الطعام والجوع في ان واحد فيزداد اعتصار معدته ويزداد الم جوعه، تمنى بينه وبين نفسه لو يستطيع تناول ولو بقايا الطعام الذي تركه هذه الرجل المنتفخ على طاولته، لكن كرامته وعزة نفسه، ونظرات الشفقة التي لا ترحم، لا تترك له مجالا الا احتمال الام الجوع، لن تسمح له روحه المعذبة ابدا بان يطلب او يستجدي أحدا مهما كلف الامر، أراد ان يقنع نفسه فخاطبها:
- سنعود الى وطننا قريبا، سنعود الى الارض والوطن هناك سنعيش مجددا كما كنا بعزة وكرامة بهدوء وسكينة وسلام سنأكل ونشرب كما يحلو لنا، سنحمي الوطن من كل المجرمين.
كان الجوع اقوى من حبه للوطن، فزادت رغبته في بيع ما يحمل بين يديه من علكة ليشتري طعاما له وليسد رمق عائلته وقد استوطن الجوع بطونهم وقض مضاجعهم ودق أبواب حياتهم منذ ان تركوا وطنهم جنة الله على الأرض وهربوا من وجه مجرمي العالم وسفاحيه، تكالب عليهم الأخ قبل الصديق والقريب قبل الغريب في غفلة من الزمن الرديء، نزحوا هربا الى الجار القريب ليجدوا أنفسهم كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، استباحوا حرمتهم وسرقوا راحتهم وتركوهم في العراء يدقون أبواب العالم بلا رحمة:
تلاقت عينا الصبي الحائرة الخائفة المتوسلة، بعيني مسعود الحالمة المستيقظة من حلم جميل، المليئة بالحيرة والتعجب مما يرى امامه، شعر انه يعرفه، شعر ان هناك خللا حقيقيا قد حصل في الطبيعة، أحس ان جزءا منه يبكي، يصرخ، يتألم ينفطر، يستجير باحثا في عيني الصبي عن معنى وجوده امامه، كأنه يجسد واقعا كان قبل لحظات بعيدا عنه او هو مجرد أوهام واحلام يعيشها افتراضيا على صفحات التواصل الاجتماعي يناقشها من باب الترف الثقافي، يتحدث بها دون ان يلامسها.
أي عالم هذا الذي يجعل صبيا في مقتبل العمر يبيع العلكة ليقنع نفسه انه لا يتسول، أيها العالم الظالم، يا روحي المعذبة امام هذا الصبي افيقي من سباتك ارحمي قلوبنا الممزقة على هؤلاء الذين نتذكرهم فقط عندما نراهم وكأنهم جزء من ترفنا اليومي وعاداتنا البالية التي نعيشها، في هذا العالم الحقيقي والافتراضي على حد سواء.
أنقذه الصبي من جنون روحه التي صحت على منظر الصبي الحزين:
- هل تريد ان تشتري علكة يا سيدي؟
تفرس مسعود بالصبي، المسكين البائس، غير مصدق انه يتكلم العربية:
- من أي بلد انت أيها الصبي؟
- انا سوري.
قالها بنبرة حادة وحازمة كأنه يتحدى مسعود، وربما أراد ان يوقظ فيه بقايا ضمير غائب عن جياع العالم.
- ما اسمك أيها الصبي؟
- اسمي يونس
تمتم مسعود بينه وبين نفسه:
يا له من اسم رائع، يا له من صبي يتحدى كل من يقف امامه بكل ثقة وتحدي، شعر مسعود بوخز ضميره يوقظ وجدانه النائم كنوم امته، سال نفسه وهو مقطب الجبين وعابس الوجه امام يونس:
- اهو يونس الذي ما زال يعيش في بطن الحوت يبحث عن مخرج له ولامته ام هي صحوة الضمير المعذب أصلا والمخدر فعلا، امام هذا الصبي، ام هو نوع من الترف وقضاء وقت تسلية مع هذا الصبي الذي يتحدث العربية في بلاد الغرباء.
أيقظه كبرياء الصبي من غفوة ضميره وسبات عقله المستيقظ للتو، فأراد ان يجاري هذا الكبرياء الذي يحمله صبيا في مقتبل العمر نيابة عن امة نائمة، أراد ان يحفظ للصبي كبريائه لعله يحفظ كبرياء نفسه المراق على اعتاب الغرباء. ومن باب التعرف أكثر الى يونس سأله:
- ما تفعل هنا؟
نظر يونس الى مسعود بغضب، يكاد يتحول الى صراخ، ظن ان مسعود يريد ان يتسلى به ويهين من كرامته، رغم رائحة الطعام الشهي التي تطغى على مشاعر يونس واحاسيسه:
- انا لا استجدي أحدا يا سيدي، إذا كنت لا تريد ان تشتري مني العلكة فدعني وشأني.
عرف مسعود انه اهان الصبي بأسئلته الحمقاء، عرف ان يونس لا يبحث عن صداقات ولا صدقات بقدر ما يبحث عن أسباب بقائه حيا. فتصرف كأنه لم يسمع ملاحظات الصبي:
- بكم تبيعني كل هذه العلكة التي معك يا يونس؟
- بعشر ليرات تركية، هل تريد ان تشتري ام اذهب.
- سأدفع لك ثمن العلكة خمسون ليرة بشرط ان تجلس معي على الطاولة.
- سيطردني النادل
- لن يفعل سأقول له أنك معي
- وماذا سأفعل؟
- ستجيب على اسئلتي، وستتناول الطعام معي.
- لا اقبل صدقة من أحد
- بل ادفع لك ثمن بقائك معي لأني اريد شخصا يكلمني لغة افهمها، فانا مثلك غريب في هذه البلاد.
أحس يونس بالاطمئنان الى حديث مسعود، قد يكون اعتبره ثريا ويريد ان يصرف أمواله، وربما شخصا مخبولا ويريد ان يقضي وقته، وفي كل الأحوال ما يهم يونس هو ان يبيع ما معه ويتناول طعاما لم يذقه منذ فترة طويلة لا يذكر امدها، فأجاب مسعود على سؤاله الأول وهو يشعر بالاطمئنان ولعل الرجل الذي امامه ينقذه فليس عنده ما يخسره:
- جئنا هربا من الحرب
- ولماذا الى هنا بالذات؟
- لان العرب رفضوا ان يستقبلونا.
- والأتراك؟
- يصدروننا الى الغرب كأننا وباء يجب التخلص منه
- لماذا لم تذهب معهم؟
- لأني اريد ان اعود الى وطني هنا أقرب؟
- ولكنك خرجت من وطنك.
- لا اريد ان اموت، يكفي من مات من اسرتي، اريد ان أعيش، انا بحاجة الى طعام ولباس ومأوى حتى اعود الى وطني.
ود مسعود في تلك اللحظات ان يضم الصبي الى صدره ان يقبله ان يدفئه، ود ان يفرغ كل جيوبه من المال ويقدمها ليونس لعله يريح ضميره الذي يحاربه بكل ضراوة، أشار للنادل ان يقترب وطلب منه ان يقدم أفضل وجبة للصبي وقبل ان يختفي النادل، اخرج من جيبه خمسون ليرة قدمها ليونس وهو يقول:
- هذا ثمن العلكة التي معك، الان هي لي.
- وماذا تريد من كل هذه العلكة؟ هل ستبتلعها جميعا؟
- لا ... سأبيعها.... بكم تشتريها؟
وضحك مسعود كأنه لم يضحك في حياته لم يكن يدري ايضحك من نفسه ام يضحك عليها. تبسم يونس بخبث كأنه لم يفهم الرسالة. بعد ان هدا مسعود قال ليونس وكأنه يخاطب نفسه:
- الان عرفت أنك انت يا صغيري وكل معذبي الأرض أنتم وليس من ظلمكم أنتم ظل الله في الأرض بالتأكيد ليس السلطان.
- لا افهم ما تقول.
- انا أحدث نفسي أحيانا ...
لم تمض دقائق من تناوله طعامه حتى اختفى يونس مع علكته خلف مياه البوسفور التي عادت لتحدث مسعود عن تاريخها.
في تلك الاثناء كانت اشعة الشمس الذهبية تلقي بثقلها الذهبي على سطح مياه البوسفور فيزداد لمعانا وبريقا لا يعكرهما الا عشرات البوارج المحملة بالبضائع تمخر عباب اليم ذهابا وإيابا، يسابقها طائر النورس عله يجد قوت يومه من بقايا بحار قد مل الطعام او قذف بقاياه الى أعماق البحر. ترك لعينيه السباحة والغوص في هذا المجال الرحب من مياه البوسفور تارة، والتحليق والسفر في فضاءات هذه المدينة العريقة الفاصلة بين الشرق والغرب والتي تروي لكل زائر قصتها دون عناء تارة أخرى.
عندما عاد الى الفندق في وسط المدينة همس لنفسه الحالمة وروحه المسافرة في فضاءات المدينة العريقة بسؤال لم يعرف له جوابا وأبقى ضميره معلقا في الهواء الدافئ المنبعث من المكيف:
- هل ما زال يونس بين فكي الحوت، وهل سينجو. !!...؟

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة