الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 25 / أبريل 05:02

عندما يتزوج الشهيد الشهيدة/ بقلم: عيسى قراقع

كلّ العرب- النّاصرة
نُشر: 07/11/15 09:03,  حُتلن: 09:05

عيسى قراقع في مقاله:

هناك عرس على بعد شهيد او شهيدين على بعد حارة او حارتين على بعد حاجز او حاجزين على بعد سجن او سجنين فلا تغلقوا الابواب لا تمنعوا هذا الفرح

في هذه الساعة عروسان قادمان من الابد الموت في عاداتنا حليفا للحياة هكذا يقول الحادي وهو ينزل الطرحة والاغنية على وجه العروس

لم يحدث الا في فلسطين، زفاف ابيض للشهداء، اعراس تمطر بحناء الدم، وورد العسل الاحمر يفوح من الارواح، وفي كل 24 ساعة شهيد او شهيدتان، عروسة او عروستان، وفي عز الظهيرة، النهار شامل والرياح فلسطينية، حجر اخضر، شجر، شارع، قمر، ولد، انشودة وغناء.

في قرية سعير الفلسطينية، وخلال جنازة الشهيد رائد جرادات، طلب والده يد الشهيدة دانيا ارشيد لابنهم الشهيد رائد، ونادى المنادي بآيات القبول والفرح واللقاء، هطل الدمع على تراب القبر، المهر دم، والشرفة خليلية مشرعة من سعير الى الحرم الابراهيمي، حيث تجري الملحمة ودخلة العروسين.

لم يحدث الا في فلسطين، الشهيد يزف الى الشهيدة، محمولان على الاكتاف، والذي رأيته الآن ليس جنازة، بل حياة تتجدد في موتها الكوني قريبا وبعيدا من النقب حتى جنين.

وكان على العالم ان يرى القاتل والقناص والمختبئين في دباباتهم وابراجهم العسكرية، وكان على العالم ان يرى الاعدام الجماعي على الحواجز وفي الشوارع، ليشاركنا قليلا في هذا الزفاف الشتوي، تشارك فيه السماء وانتفاضة الارض، وتديرها الاعناق والاجراس واشارات الانبياء.

لم يحدث الا في فلسطين، رائد جرادات ودانيا ارشيد، يقومان في هذه الساعة، يدخلان مدن فلسطين مدينة مدينة، يولدان من اجفان الغيب والمستحيل، ينامان على وسادة واحدة، قبر واحد، بعث واحد، وفي فلسطين فقط يخرج الشهيد من رحمين وحياتين وخاتمين وزغرودتين، ينهض ابونا النبي ابراهيم الخليل، يفتح المسجد ويبدأ الصلاة.

في هذه الساعة، في فلسطين، ينفجر الماء من عيون الشهداء، على حاجز الجلمة، على حاجز بيت ايل، على حاجز قلنديا، على حاجز عصيون، في شوارع وأزقة الخليل، امام قبر راحيل في بيت لحم، على حاجز زعترة، واكثر اكثر في زمن القدس، حنجرة من نار سماوية هناك، واكثر اكثر في تل ابيب، حيث الخوف والهوس والهاربون الى الاساطير.

في هذه الساعة، عروسان قادمان من الابد، الموت في عاداتنا حليفا للحياة، هكذا يقول الحادي وهو ينزل الطرحة والاغنية على وجه العروس، ولا يتطلع الى الجندي الذي اختفى في الليل، ولا يلتفت الى دولة حوّلت حياتها الى معسكر من حديد.

في هذه الساعة، عروسان يأتيان من خلف الاسوار والاسلاك الشائكة، يفتحان معا تلك الابواب الموصدة، سجنا سجنا، يعود كل اسير الى عروسته المتخيلة، يقع الحلم الان على الواقع، ولأول مرة يصير السجان شبحا والسجين شمسا و رواية.

الشهيد لم يشعر بنقص في مشاعره وجسده، حمل دمه وقام كالمسيح في دهشة الضوء، اعدّ موسيقى القيامة، ومشى مع عروسته الشهيدة في هذا الطريق الطويل، هو القادر على التكرار، لم يشعر بنقص في الوجود، نور وايمان يملآن قلبه بالصحو، والاشجار عالية.

الشهيد لم يقف كثيرا امام رزمة القوانين العسكرية والاجراءات الحربية القمعية لدولة اسرائيل القاضية بإطلاق 21 رصاصة على جسده، وتركه ينزف حتى يشبع قادة تل ابيب في صعودهم الى المنفى والشتات، مسك بيد عروسته وعاد الى البيت.

هناك عرس على بعد شهيد او شهيدين، على بعد حارة او حارتين، على بعد حاجز او حاجزين، على بعد سجن او سجنين، فلا تغلقوا الابواب، لا تمنعوا هذا الفرح، فإن لم يسقط شهيد لن يكون هذا العام شتاء، وان صمت الموت، فلا حصة للحياة في الغناء، هناك عرس في وجه هذا الهواء.

في فلسطين وحدها، الحب كالموت، ما أشهى الحياة وهي تقذف على حجر، وما اشهى الموت عندما تشاركنا الملائكة في طقس جنازاتنا، تخضر الاغنيات، ونحن نحتفل بوطن الاجساد مرفوعة كالرايات.

هناك صوت من الابدية:
من يحمي هذا الموت الذهبي؟ الفصائل والتنظيمات، ام هتافات الرثاء، ارتوت الكتب والخطابات والكلام، تمرد جيل آخر على المفردات، خرج من الموت السياسي ومن الاقفاص والعبارات، حطم الاصنام، من يحمي هذا الزفاف ويفتح النعش؟

حدّقوا في عينيّ الشهيد والشهيدة، ترون القدس والآيات النازلات الصاعدات المباركات، وترون البحر والجبل والساحل واللاجئين العائدين من الذكريات، خيط دم يسيل على الوجنتين، فجع في المقلتين، وقبلات ام على الخدين.

هناك صوت من الحياة:
طعام الشهيدة يكفي شهيدين، قالها الشاعر سميح القاسم في لجة الموت، لا اخاف من الموت، وهنأ المشيعين بموت آخر جميلا، قبل ليلة او ليلتين، مؤكدا اننا سنعطي الشوارع اسماء من لم يسيروا عليها طويلا.

في قرية سعير بالخليل، يزف الشهيد الى الشهيدة، يتعالى الموت على الاشياء والتوقعات والمسميات، يحتفل الاحياء بالاموات، والاموات بالاحياء، يرقصون، فالفرح ممكن في فلسطين مثل هزة الموت او شهقة الشهداء.


يقول الشهيد: انا اثنان في واحد، اتشظى الى اثنين، احمل بيتي على كتفي، ما زلت حيا، اوقظ موتي، واكمل خطواتي وذكرياتي، وادنو من غدي، لن أتأخر عن موعدي.

تقول الشهيدة: انا اثنان في واحد، وصلت الى آخر الحلم، شاهدت نفسي هناك، وشاهدت قلبي يتطاير على قمم الجبال، خلف البعيد، عروسا تزف بين الدنيا والآخرة.

ونرى من قريب، فارس يحمل الغيم، ابيض ابيض، يأتي الى موعده في الفضاء المبلل بالماء، كانت العروسة تنشف شعرها من الدماء، شعر طويل ترعرع فيه القمح والمطر قطرة قطرة كنداء يزف الى عاشقين.

في فلسطين وحدها يزف الشهيد الى الشهيدة اعراس تكتمل وارواح عنيدة.

رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة