الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 11:01

لربّ مشاحنة تقود لسبيل الحب/ بقلم: أسيل منصور

كل العرب
نُشر: 28/10/15 20:28,  حُتلن: 13:40

كنت على سرير المرض أشكو صداعا ألمّ بي منذ مدة ..كانت حياتي صاخبة منذ أن عرفتها ..تلك الجميلة بضفائرها الشقراء وشالها القرمزي ..لوني المفضل على الإطلاق ..جلست إلى جانبي تخفف عني وتمسح على جبيني وكان ليدها ملمسا سحريا يخفف من شدة الألم في رأسي ..
أصرت على أن تحكي لي قصتنا من جديد وعادت بي كلماتها عشرين سنة إلى الوراء ..

كان ذلك يوما خريفيا تئن فيه الرياح وهي تراقص أغصانا عارية من أوراق سقطت طريحة الأرض العطشى..كان وجه الأرض مكسوا بالأحمر وذكرني ذلك بوجه امرأة أصرت على أن تكسو وجنتيها بمسحوق برائحة الموت يجعلها تبدو أجمل فكان لها ذلم وفتنت كل من رآها بالحياة في وجهها ..كنت أقف بسيارتي بين الزحام وبينما أنا غارق بأفكار شتى لأشاركها مع طلابي في الكلية نظرت إلى المرآة الأمامية لأعدلها فلمحتها ..شابة في مقتبل العمر تغني وتضرب المقود بحركات يبدو أنها تتلائم مع إيقاع الأغنية التي دوت من الخلف في سيارتها ..كانت تفعل ذلك بكل حرية كأنها لوحدها في الطريق ووصل إلى أسماعي كلمات الأغنية فلم ترق لي أيضا ..لعنت جيل اليوم وأشحت بنظري عنها ..
دخلت الصف ورحبت بالطلاب ..بعضهم كان مألوفا من سنين سابقة وبعضهم كان جديدا ..سجلت الحضور ونطقت باسم كان له وقع خاص على النفس ..بحثت عن صاحبة الاسم فإذا بها مطربة الصباح ..تجلس في السطر الأول وترفع يدها لأنتبه لها فعضضت على شفتي بامتعاض واستسلمت للانطباع الأول الذي شكلته عنها ..
كنت أدَرِّسُ الكتابة الإبداعية وطلبت ممن لا يرى في نفسه القدرة على الكتابة أن يوفر على نفسه العناء ويرحل ..شرحت عن الإبداع وفلسفته وبدأت أشرح عن الاستعارة ..كنت أعتمد على عرض محوسب وبه صورتان ،إحداها لامرأة عجوز والثانية لكلب ووضحت وجه التشابه بين الصورتين ..فجأة ومن دون سابق إنذار رفعت نفس الشابة يدها وأعطيتها الإذن لتتكلم فقد كنت قد أنهيت تقديم فكرتي وإذا بها تقول :
-هل هذه العجوز على قيد الحياة ..
اعتبرته سؤالا غريبا فقلت:
-هل أنت تسألين أم تجزمين ؟
فقالت بغضب :
-أنا أسأل فقط وذلك لأَنِّي لا أعلم كيف تسمح لنفسك بأن تقارن إنسانا بحيوان !
أمعنت النظر فيها وبحثت عن مخرج من هذه الورطة فقلت :
-لا أعرف إن كانت هذه العجوز على قيد الحياة
وتهربت من النظر إليها وسمحت لطالب آخر بالكلام ومضى القسم الأول من المساق وذهبت في الاستراحة إلى مكتبي وكلماتها المتأججة غضبا لا تفارقني ..لم أُعِد النظر في عرض الصورتين لأَنِّي أستعملهما منذ وقت طويل وكانت هذه طريقتي في شرح وجه الشبه ولكنها كانت المرة الأولى التي أتجاهل سؤال أحد الطلاب بهذه الطريقة كما أن صورتها التي كونتها عنها منذ الصباح تضعضعت وتغيرت فهي انقلبت فجأة إلى مدافعة عن حقوق البشر وظللت أفكر فيها وقررت أن أعالج الأمر بطريقتي ..عدت إلى غرفة التدريس ،بحثت عنها بعينيّ وبعد أن دخل الجميع وجهت إليها الكلام وسألتها نيابة عن باقي الطلاب إن كانوا قد تعلموا عن الاستعارة في مساقات أخرى ...نَظَرت إلي وعلى وجهها ابتسامة غامضة ..كانت عيناها تنطقان وتعاتبانني على ما ارتكبت وبقيت أنظر إليها من غير إدراك للوقت وبعدما استعدت وعيي غضبت وبحثت عن آخر يجيبني على سؤالي ..واستمر شعوري هذا لأيام طوال لم تغب فيها عن ذهني ..كيف استطاعت تلك الطالبة أن تهينني أمام الحاضرين وبكل وقاحة..كانت مشاعري مختلطة فأنا الذي ذبت أمام نظرتها وانقطعت عن كل شيء من حولي إلا منها.
كانت عيناها جميلتين كما اعترفت بيني وبين نفسي وتمنيت لو أنها تترك المساق لتتركني فأرتاح ولكنها لم تفعل بل وحصل ما كنت أتهيبه فكلما كنت ألقي على كاهل الطلاب بوظيفة في الكتابة كانت كلماتها تسرقني من نفسي وتجعل مني أسيرا لها ..
واستمر الأمر على هذا الحال وكم حاولت أن أتجاهلها فلا أنظر باتجاهها ولكني فشلت فشلا ذريعا في ذلك فكنت أحتاج لأن أقرأها كل مرة من جديد فكانت كرواية صاحبة فصول عديدة ،تزداد تشويقا في كل لحظة، وحل الشتاء فازدادت روعة ورافق وجنتاها احمرارا دائما من البرد فقد كانت ناصعة البياض وأصبحت أنتظر كتابات ذات الجديلتين على أحر من الجمر فباتت زادي وتعلقت بها تعلقا شديدا وكنت أعلم أنها تظن أني لا أستلطفها فحاولت تغيير ذلك بالملاحظات التي كنت أملأ بها دفتر كتاباتها الأسبوعية وأصابتني حمّى الحب وكرهتها لأنها كانت السبب في فقداني لتوازني في الحياة ..
واقترب المساق على الانتهاء وعلمت أني لن أقوى على الحياة من دونها فقررت أن أدوس كبريائي وأن أفاتحها في الأمر بل وأطلب منها الارتباط بي رسميا فجاء جوابها بابتسامة خجولة باحت لي فيها بحبها وعرفت منها لاحقا أنها أحبتني أيضا رغم اختلافاتنا وهي اليوم زوجتي التي لا أستعيض بغيرها عنها أبدا ولرب مشاحنة تقود لطريق الحب ..

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 


مقالات متعلقة